في وسع المراقب لردود الفعل التركية الرسمية حيال إسرائيل على خلفية حادثة الاعتداء على «أسطول الحرية»، أن يلحظ شيئاً من التناقض الذي يطوي بين ثناياه رغبة مدروسة من قبل حكومة «العدالة والتنمية» في العبور بتلك الحادثة الى نفق المشاعر الوطنية والأممية المحتقن توطئة لاستثماره على أكثر من صعيد. ففي أعقاب الحادث، خطب أردوغان في شعبه غير مرة، كانت أولاها، في البرلمان التركي، وتضمن خطابه إيماءات تشي بنزعة «عثمانية»، حيث أعلن أن «تركيا ستتحرك وفقاً لما يليق بها وما يتسق مع تاريخها». ثم عاد وأكد في كلمة أمام حشد ممن شيعوا شهداء «أسطول الحرية» الأتراك في مدينة قونيه، أنه «إذا أدار العالم ظهره لفلسطين فإن تركيا لن تدير ظهرها للقدس والشعب الفلسطيني أبداً». واعتبر أن «قدر الشعب الفلسطيني ليس منفصلاً عن قدر تركيا، وقدر غزة ليس منفصلاً عن قدر أنقرة»، مؤكداً أن «رام الله ونابلس ورفح وخان يونس وبيت لحم وجنين»، كلها مدن ليست منفصلة عن قونيه». مضيفاً: «إذا صمت العالم فنحن لن نصمت، وإذا غضّ العالم الطرف عن تلك المذبحة فنحن لن نغض الطرف، وإذا بقي العالم متفرجاً على حمام الدم فإننا لن نظل مكتوفي الأيدي ونترك ذلك الدم يجري، لأن ذلك لا يليق بالشعب التركي والأمة التركية». وفي خطاب ثالث ألقاه بمدينة «بورصة»، أكد أن غزة بالنسبة لبلاده قضية تاريخية ولن تتراجع أنقرة عن رفع الحصار المضروب عليها. الأمر الذي جعل من أردوغان بطلاً شعبياً بين المسلمين في تركيا وخارجها على نحو يمهد الأجواء لما يمكن أن يطلق عليه ظاهرة «الأردوغانية» أو «الترك فوبيا». وبينما انحصرت الإجراءات التركية العملية التي اتخذت بالفعل على أرض الواقع في استدعاء أنقرة السفير التركي من تل أبيب وإلغاء حكومة «العدالة والتنمية» ثلاث مناورات عسكرية مشتركة كانت مقررة مع الجيش الإسرائيلي، فضلاً عن مباراة في كرة القدم بين المنتخبين التركي والإسرائيلي، كما أصدر البرلمان التركي قراراً بالإجماع يدعو إلى مراجعة العلاقات الاقتصادية والسياسية والعسكرية مع إسرائيل، أخذت نبرة المسؤولين الأتراك تشهد خفوتاً تدريجياً ملحوظاً خلال الأيام القليلة الفائتة في ما يخص الإجراءات العقابية الممكنة ضد تل أبيب. ففي الوقت الذي تبارى الرئيس التركي ورئيس وزرائه في التحذير من مغبة تقليص العلاقات مع تل أبيب إلى حدها الأدنى وتجميد مشاريع متعددة للتعاون على أكثر من صعيد، إذ أعلن الرئيس التركي عبدالله غل أن العلاقات بين بلاده وإسرائيل لن تعود إلى سابق عهدها، وصرح نائب رئيس الوزراء التركي بولنت أرنك بأن أنقرة ستقلص علاقتها العسكرية والاقتصادية مع تل أبيب، وأنها تعمل حالياً على إعادة تقييم الاتفاقات المبرمة معها، فاجأ وزير الدفاع التركي الجميع بتأكيده على أن أزمة أسطول الحرية لن تدفع بلاده إلى تجميد أي اتفاق عسكري مع إسرائيل، لاسيما ذلك الذي أبرم مطلع هذا العام والمتعلق بتصنيع آلات عسكرية يستخدمها الجيش التركي لقصف مواقع حزب العمال الكردستاني، فضلاً عن مشروع آخر بقيمة 183 مليون دولار يشمل تصنيع عشر طائرات من دون طيَار وما يتصل بها من معدات عسكرية يعتمد عليها الجيش التركي في عمليات المراقبة والاستطلاع. كذلك، استبعد نائب رئيس الوزراء التركي أن تشهد العلاقات التركية - الإسرائيلية انتكاسة حقيقية. كما أكدت مصادر أميركية مطلعة أن الخارجيتين الأميركية والتركية أكدتا أن تركيا وأميركا وإسرائيل أصدقاء وسيتعامل الجميع مع أزمة «أسطول الحرية» بوصفهم حلفاء وأصدقاء مقربين. وتواصلاً مع ما سبق، يلحظ المتأمل في التصريحات التي تداعت على ألسنة المسؤولين الأتراك عقب حادث «أسطول الحرية» مستهدفة إسرائيل ما بين نزوع للتهديد أو تلويح بالتهدئة، أنها تطوي بين ثناياها شيئاً أقرب إلى توزيع الأدوار الذى يجمع ما بين التهدئة والتصعيد في آن، بغية الإمساك بالعصا من المنتصف بما يتيح لحكومة «العدالة والتنمية» تحقيق هدفين متوازيين ومتزامنين. يتمثل أولهما في الإبقاء على علاقات أنقرة الاستراتيجية مع واشنطن وتل أبيب، والتي تعد ركيزة مهمة للدور الإقليمي التركي المتعاظم خلال الآونة الأخيرة. ويتنامى الحرص التركي في هذا الخصوص بعد أن لمحت واشنطن على لسان بعض الخبراء والمحللين القريبين من الإدارة، إلى استعدادها لتغيير نهجها حيال تركيا إذا ما اضطرت للمفاضلة بينها وبين إسرائيل، حيث أكد ستيفن كوك المحلل في مجلس العلاقات الأجنبية في واشنطن أنه عندما يكون على بلاده الاختيار، فإنها ستكون أقرب إلى الإسرائيليين منها إلى الأتراك في الكثير من المسائل. وتزداد الحسابات التركية تعقيداً مع تفاقم هواجس واشنطن من سعي حكومة «العدالة والتنمية» للعب دور إقليمي لا يتورع بالضرورة عن تجاوز القواعد التي أرستها واشنطن في المنطقة، بل وكسرها في بعض الأحيان. ويستشهد أصحاب هذا الطرح بمواقف أنقرة إزاء إيران والمسألة الفلسطينية. فعلاوة على تمسكها بدعم الموقف الإيراني وتفهمها لطموحات طهران النووية،أعلنت حكومة «العدالة» تعليق أية خطوات للوساطة في محادثات السلام غير المباشرة بين إسرائيل وسورية عقب حادثة أسطول الحرية. كذلك، ذهب الموقف التركي بعيداً من حركة «حماس» حينما أعلن أردوغان أنه أبلغ الولاياتالمتحدة بأنه لا يقبل تصنيف الحركة على أنها منظمة إرهابية، بل هي حركة مقاومة تقاتل للدفاع عن أرضها، وأن الكثير من أعضائها معتقلون في السجون الإسرائيلية مع أنهم فازوا في انتخابات ديموقراطية وحرموا من حقهم في الحكم، وطالب بضرورة إشراك الحركة في عملية السلام. وهي التصريحات التي تعرض أردوغان إثرها لانتقادات محلية ودولية لاذعة. فمحلياً،اعتبرت المعارضة التركية أن تصريحات أردوغان انطوت على تناقض واضح، خصوصاً أنه شخصياً لم يقابل أياً من مسؤوليها أو قياداتها كما تتلافى الحكومة التركية أية لقاءات رسمية مع الحركة وترفض السماح لها بفتح مكتب تمثيل في تركيا. ودولياً، أبدت واشنطن استياء من تصريحات أردوغان الجديدة والمثيرة في شأن «حماس»، التي باتت باعثاً جديداً للتوتر بين أنقرةوواشنطن، كونها ترفض حتى الآن تحديد موعد للانتخابات الفلسطينية، ولا تعترف بحكومة رام الله، وتستمد شرعيتها ووظيفتها من واقع الحصار. هذا في الوقت الذي تطالب الولاياتالمتحدة وشركاؤها الدوليون حركة «حماس» بالاعتراف بحق إسرائيل في الوجود أولاً، ونبذ العنف ضدها والقبول بالاتفاقيات السابقة الموقعة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. علاوة على أن تعزيز أنقرة لدورها في عملية سلام الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية من خلال مد جسور التواصل مع حركة «حماس» من شأنه أن يضع الحكومة التركية في موقف حرج مع الحكومة الفلسطينية المعترف بها دولياً بقيادة محمود عباس أو أن يضعها في موقف مشابه لموقف طهران حيال تلك القضية . أما الهدف الثاني الذي تتوخاه حكومة «العدالة والتنمية»، فيتجلى في سعيها للاحتفاظ بشعبيتها المتنامية محلياً وإقليمياً على مشارف الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في شهر تموز (يوليو) من العام المقبل، والتي تسعى قيادات حزب العدالة والتنمية لتقديم موعدها وإجرائها في شهر أيلول (سبتمبر) المقبل محاولة استثمار نتائج أزمة «أسطول الحرية» داخلياً بعد ترويج حكومة العدالة أنها حققت نصراً كبيراً على إسرائيل من خلال إجبارها على إعادة جميع المحتجزين وحمل مجلس الأمن الدولي على إصدار بيان تنديد رئاسي والأمر بتشكيل لجنة تقصي حقائق دولية. وترى قيادات الحزب الحاكم في تركيا أن من شأن إجراء الانتخابات العامة مبكراً أن يتيح للحزب الاستفادة من التفاف الشعب التركي حول الحكومة بغية سد الطريق على منافسيه مثل زعيم المعارضة الجديد كمال كيليش دارأوغلو الذي تزداد شعبيته بمرور الوقت، وكذا حزب «السعادة الإسلامي» الذي يشرف عليه الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان، والذي استطاع خلال السنتين الماضيتين أن يستقطب ثلاثة في المئة من مؤيدي حزب «العدالة»، كما سارع هو أيضاً إلى تنظيم تظاهرة حاشدة في أسطنبول احتجاجاً على الهجوم الإسرائيلي على «أسطول الحرية». فضلاً عن إجهاض مساعي المدعي العام التركي لرفع دعوى قضائية جديدة لإغلاق حزب «العدالة والتنمية». علاوة على ذلك، قد تمثل الانتخابات المبكرة فرصة أمام حكومة العدالة للاستقواء بصناديق الاقتراع والتأييد الشعبي الجارف لها في مواجهة قرار المحكمة الدستورية الذي يرجح أن يصدر خلال شهر أو أقل لمصلحة إلغاء التعديلات الدستورية التي أقرها البرلمان التركي في آيار (مايو) الماضي في شأن إعادة بناء المؤسسة القضائية. ومن زاوية أخرى، يبدو التوتر التركي الإسرائيلي الراهن، في أحد أبرز جوانبه، كما لو كان تضارباً في الرؤى أو صعوبة في التناغم والانسجام بين الحكومتين الحاليتين في أنقرة وتل أبيب. فالحكومة الإسرائيلية ترى أن حكومة العدالة والتنمية بقيادة أردوغان هي المسؤولة عن التوتر الذى يلقي بظلاله على العلاقات التركية الإسرائيلية منذ العام 2008 ، كون هذه الحكومة متطرفة ومتأسلمة ومعادية للسامية، من وجهة النظر الإسرائيلية، إذ لا تتورع عن التقارب مع بعض الأنظمة والحركات «الراديكالية» كنظامي إيران وسورية، فضلاً عن حركة حماس الفلسطينية، في الوقت الذي يزداد جفاؤها مع إسرائيل وأميركا والغرب. وفى الجهة الأخرى، ترى حكومة العدالة والتنمية التركية أن الحكومات اليمينية المتطرفة في إسرائيل كتلك التي يقودها حالياً بنيامين نتانياهو هي الأخطر على السلام والاستقرار في المنطقة طالما ظلت تتحدى المجتمع الدولي وتمعن في انتهاك القوانين والمواثيق والأعراف الدولية، ومن ثم لم يتورع أردوغان في خطابه بالبرلمان التركي عقب العدوان الإسرائيلي على قافلة الحرية مباشرة، عن مناشدة الشعب الإسرائيلي التحرك من أجل كبح جماح حكومة نتانياهو المتعجرفة. وتحت وطأة حساباتها الإقليمية والدولية المعقدة والمتشابكة، اضطرت حكومة أردوغان لتبني خطوات عملية توخياً منها لمواربة الأبواب أمام تصفية الأجواء مع تل أبيب، كان أبرزها عدم تردد صحيفة «حريت» التركية واسعة الانتشار أخيراً في نشر صور لجنود كوماندوز إسرائيليين على متن السفينة التركية «مرمرة» التي كانت تقود أسطول الحرية وهم ينزفون جراء إصابات طالتهم إثر إعتداء الناشطين الحقوقيين عليهم كما عرضت صوراً لبعض أولئك الناشطين وهم يحملون قضباناً حديدية، وهو ما اعتبرته وزارة الدفاع الإسرائيلية مبرراً لهجومها على القافلة ودليلاً على صدق ادعاءاتها بوجود «مرتزقة وإرهابيين» على متن السفينة التركية كانوا يرغبون في قتل الجنود الإسرائيليين. وفيما بدا أن الشرط التركي الذي رهنت به حكومة العدالة إعادة العلاقة مع تل أبيب إلى سابق عهدها والمتمثل في إنهاء الحصار المفروض على غزة، سيبقى أمراً بعيد المنال، لاسيما بعد أن نفت تل أبيب الأنباء التي ادعت أن رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو قد يقبل بقوات دولية في غزة نظير تخفيف الحصار الإسرائيلي عنها، حيث أعلن نتانياهو أن تل أبيب ستواصل منع أي محاولة لكسر الحصار على غزة، معتبراً أن رفعه في شكل تام يشكل تهديداً لأمن إسرائيل. وبدورها، بدأت حكومة العدالة تتفهم ذلك، حيث قلصت من سقف مطالبها للتصالح مع تل أبيب معلقة تطبيع العلاقات معها بتعاون تلك الأخيرة مع التحقيق الدولي في شأن حادثة أسطول الحرية بدلاً من رفع الحصار عن غزة، وهو تنازل ربما لا يكون الأخير من جانب حكومة أردوغان، التي يبدو أنها اتفقت ضمناً مع حلفائها في واشنطن وتل أبيب على تعلية سقف حربها الكلامية ضد الأخيرة في حدود المعقول، مع تقليصه إلى أدنى حد ممكن على مستوى الفعل. * كاتب مصري.