ترمز الأطلال في الأدب العربي وخصوصا الشعري منه الى خراب الأماكن وتحولها الى ركام، وبالتالي الحسرة على ما كانت تمثله من ذكريات سعيدة. لا تقنصر الاطلال على الاماكن، بل يمكن لها ان ترمز الى مجتمعات وصلت الى مرحلة من الانحدار والانحطاط بحيث تحولت مكوناتها البنيوية الى اطلال تبكي عليها الشعوب اسوة بما كان الشعراء ينشدونه على اطلالهم. يقدم المشهد العربي الراهن اكثر من دليل على انهيار مقومات في المجتمعات العربية كانت لسنوات مضت تشكل نقاطا مضيئة نحو المستقبل. بما ان هذه القضايا باتت اكثر من ان تحصى، الا انه يمكن تمييز ثلاث منها تحتل موقعا مركزيا في مجتمعاتنا العربية. تمثل القضية الفلسطينية والمآل الذي وصلت اليه واحدا من ابرز الانهيارات العربية. كانت هذه القضية منذ الخمسينات عاملا رئيسيا في الاستنهاض العربي في وجه الاستعمار الغربي ومشروعه الصهيوني في المنطقة الذي اوجد بموجبه دولة اسرائيل لتشكل بديلا عن الاستعمار المباشر ولتلعب دور هراوة في المنطقة عبر احتلال الارض العربية وقمع حركات التحرر فيها والمساهمة في منع تطور المجتمعات العربية. لم يكن بالامكان ولادة المشروع القومي العربي وحاملته العروبة من دون القضية الفلسطينية التي تحولت قضية جامعة للشعوب العربية بشتى تنويعتها الاثنية والطائفية. تبدو هذه القضية اليوم، وفي ضوء الهزائم المتتالية التي مني العرب بها، وانسداد آفاق التسوية بفعل الرفض الاسرائيلي والاميركي، امام تحول جديد في طبيعتها وموقعها التاريخي. تنتقل القضية من موقعها العروبي الجامع واعتبار الصراع الدائر صراعا صهيونيا عربيا، الى تحولها صراعا صهيونيا اسلاميا. لا يقع الامر في شكلية الانتقال، بل ان المسار الجديد لهذا التحول سيجعل من القضية الفلسطينية عامل انقسام وشرذمة للقضية نفسها وللصراع مع اسرائيل في الآن نفسه، وهو امر ستدفع القضية الفلسطيينة ثمنه بشكل مباشر ومعها ايضا سائر الشعوب العربية. ان دخول القضية في معمعان الصراع الديني سينجم عنه صراع بين القوى الطائفية والمذهبية على تناتش القوى الفلسطينية وزجها في حروب اهلية مباشرة تشكل اكبر خدمة للعدو الصهيوني. لا يقع هذا الكلام في باب التكهنات لأن الادلة على وجوده باتت ملموسة ومباشرة. القضية الثانية التي ترمز الى انهيارات في مكونات البنى العربية تتصل بالتضامن العربي وما كانت القمم العربية تمثله في هذا المجال. منذ القمة العربية في العام 1964 والتي شكلت افتتاحا لمسار القمم العربية، كانت المناسبة فرصة للملمة الوضع العربي والسعي الى التوافق على قواسم مشتركة تشدد على عناصر القوة والتضامن بين الدول العربية. الجديد خلال الاعوام الماضية، وخصوصا القمة العربية الاخيرة لهذا العام، ان القمة باتت مناسبة لتظهير اوسع الخلافات بين الدول العربية واستحضار التناقضات بما يمنع هذه القمة من اتخاذ قرارات تساعد في الحد من الخسائر العربية المتوالية تباعا. اما الجديد غير المألوف في واقع القمة، فهو ان شعار التضامن تراجع الى الوراء ليحل مكانه شعار «ادارة الخلافات العربية»، وهو تحوّل يظهر حجم الانهيار العربي وحدود التلاقي على المسائل المصيرية. ان شعار ادارة الخلافات يعني ان المنطقة العربية مقبلة على المزيد منها وان العودة الى التضامن عبر استحضار القضايا المركزية وعلى رأسها القضية الفلسطينية ومواجهة المشروع الصهيوني قد باتت تنتسب الى الماضي. ليس غريبا ان يدخل الوضع العربي مدار تواصل الخلافات بعد ان اتخذت القضية الام مسار الانغماس في الصراعات الطائفية والمذهبية. اما القضية الثالثة التي تؤشر الى حجم الانهيار، فهي قضية التنمية العربية بما هي الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعلمي.. الذي يرمز الى درجة تطور المجتمعات العربية. حلمت الشعوب العربية بمستويات من التقدم في اوضاعها الاقتصادية والاجتماعية عندما دخلت الانظمة العربية في مشاريع تنموية، خصوصا ان المنطقة تحوي من الموارد ما يمكنها من انجاز ضخم في هذا المجال. تكمن المأساة العربية في هذا الحجم الضخم من البطالة وتهميش الاجيال الشابة، وفي المستوى المريع من الفقر المدقع الذي يضع قسما واسعا من الشعوب العربية في خانة المجاعة، وفي هذا المستوى من الامية الذي يطال حوالي اربعين بالمئة من السكان العاجزين عن القراءة والكتابة... وغيرها الكثير من المعضلات التي تضع العالم العربي في اسفل درجات التخلف والتقهقر على جميع المستويات. يزيد من حجم المأساة ما اصاب الرساميل العربية الموظفة في البورصات خلال الازمة الاقتصادية العالمية الاخيرة، حيث خسر العرب حوالي 2500 مليار دولار من ثرواتهم كان يكفي اقل من ثلثها لانقاذ الشعوب العربية من الفقر عبر مشاريع تنموية. ان ما جرت الاشارة اليه يشكل عينات من الوضع العربي في واقعه الراهن، تبرز نتائجه كل يوم على اكثر من صعيد، احباطا ويأسا وهجرة لقواه العاملة المتعلمة، وعجزا عن توفير فرص العمل وزيادة في مستوى البؤس. ليس غريبا في مثل هذه الاوضاع ان تتحول المجتمعات العربية الى تربة خصبة لانتاج التطرف والارهاب واكتساح الحركات الاصولية وافكارها لجيل الشباب اليائس من تحسن اوضاعه. كما لا يعود مستغربا ان تسير المجتمعات العربية الى مزيد من الانقسام في بناها لصالح غلبة العصبيات من عشائرية وطوائفية وقبلية واثنية وعائلية.. على حساب الدولة القائمة، بما يفسح المجال لانفجار الناقضات العصبية حروباً اهلية ساخنة تمعن تمزيقاً وتدميراً في البنى المجتمعية القائمة. بذلك تتحول هذه المجتمعات وشعوبها الى اطلال بكل معنى الكلمة. * كاتب لبناني.