العقوبات الشاملة التي فرضها مجلس الأمن على إيران قبل يومين ستؤذي النظام الحاكم في طهران بشق «الحرس الثوري» فيه لكنها قد تفيد الأقطاب الآخرين داخل النظام، عمداً على الأرجح. انحسار هيمنة «الحرس الثوري» على الساحة الإيرانية قد يفسح المجال أمام المعارضة الإيرانية لرفع رأسها والانطلاق مجدداً بزخم جديد. لكن تقوية شق الملالي داخل النظام يخاطر بقطع الطريق على الإصلاحيين مع أن الرأي السائد هو أن الإصلاحيين في المعارضة هم جزء من النظام الذي يريدون إصلاحه. الرهانات والتلاعبات على الانقسام داخل الدولة الواحدة لا يقتصر على إيران. ما حدث في مسيرة الخمسة شهور نحو تبني مجلس الأمن قرار العقوبات هو «حفلة» انقسامات بدأت داخل الصين وبينها وبين الدول الغربية الكبرى في مجلس الأمن، وانتهت في صورة مذهلة بمجلس الوزراء اللبناني وهو يصوّت على تعليمات التصويت للوفد اللبناني في مجلس الأمن ويسجّل انقسامه 14/14 صوتاً. تركيا لم تنجُ من إحراج الانقسام إذ أن وزير خارجيتها أحمد داوود أوغلو أبلغ وفده في نيويورك بتعليمات الامتناع عن التصويت على القرار، انما وفي اللحظات الأخيرة أتت التعليمات من رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان بالتصويت ضد القرار. جاء ذلك في أعقاب زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لتركيا وإبلاغه أردوغان أن «الانقسام» في التصويت بين موقفي البرازيل وتركيا سيؤدي الى نسف «إعلان طهران» الذي توصلا إليه مع القيادة الإيرانية. ووافقت إيران بموجب ذلك التفاهم على إرسال قدر معيّن من اليورانيوم للتخصيب في الخارج ليعود وقوداً نووياً للاستخدام المدني لكنها أصرّت على الاستمرار في التخصيب المحلي وبنسبة 20 في المئة من التخصيب. رئيس البرازيل لولا دي سيلفا قفز على الانقسام داخل بلاده حول كيفية تناوله الملف الإيراني وتعريضه علاقة البرازيل مع الدول الخمس الكبرى للإحراج وربما للفتور مع بعض هذه الدول. قرر الرئيس البرازيلي لأسباب شخصية أن مصلحته تقتضي التصويت ضد القرار فأسفر موقفه عن جر أردوغان الى موقف مماثل بإيحاء – أو تهديد – من أحمدي نجاد. مقابل الانقسام في صفوف الدول العشر المنتخبة لعضوية مجلس الأمن وداخل الدول الثلاث التي لم تصوّت لمصلحة قرار العقوبات، سجّل الرئيس الأميركي باراك أوباما إنجازاً كبيراً في حشده الإجماع بين الصين وروسياوالولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا. فلروسيا والصين مصالح ضخمة مع إيران، وعلى رغم ذلك، وافقتا على نظام عقوبات هو الأقسى والأشمل بين العقوبات المفروضة على أية دولة، بما فيها كوريا الشمالية. واللافت أن الدول الخمس الكبرى زائد ألمانيا تسير موحّدة في مسار العقوبات بهدف إقناع إيران بالتجاوب مع حوافز مسار المفاوضات وتعدها بتعليق العقوبات لو تجاوبت مع مطلب تجميد تخصيب اليورانيوم. أما البرازيل وتركيا فإنهما تلعبان لعبة خطيرة في سعيهما وراء إبراز وزنهما الإقليمي والدولي وكعضوين منتخبين في مجلس الأمن باقتحامهما إجماع الدول الخمس النووية الكبرى لكسره. وهذا يعطي الانطباع الخاطئ والخطير لإيران ويشجعها على التحدي والمكابرة والرهان على انقسامات بلا فائدة. فقرار العقوبات ملزم لجميع الدول بما فيها تركيا والبرازيل ولبنان، وهذه الدول ستكون تحت المراقبة والمحاسبة إذا انتهكت نظام العقوبات على إيران. وكمثال، هناك آليات تتضمن «لجنة العقوبات» و «فريق خبراء» لمراقبة امتثال جميع الدول لحذافير بنود القرار وتجيز زيارة البلد الذي يُشكك في إمداده إيران بالأسلحة أو يُسهل تهريب السلاح منها أو إليها أو يتسلم السلاح المحظور منها، والقيام بتحقيق توضع نتائجه أمام مجلس الأمن بهدف المحاسبة. لبنان، مثلاً، سيكون تحت المراقبة. فمجلس الأمن بقراره الرابع الذي يفرض العقوبات الشاملة فرض حظر تصدير واستيراد الأسلحة التقليدية من إيران، كما منع الدول من تقديم الخدمات المالية بما فيها خدمات التأمين أو إعادة التأمين أو تحويل أصول أو موارد مالية أو غيرها الى أراضيها عبرها أو منها «إذا كانت لديها معلومات توفر أساساً معقولاً للاعتقاد بأن تلك الخدمات أو الأصول أو الموارد يمكن أن تسهم في أنشطة إيران النووية الحساسة». ولأن في لبنان أطرافاً ومنظمات مثل «حزب الله» لها علاقات وثيقة مع إيران في مختلف المجالات، فلبنان تحت المجهر أكثر من غيره. انه سيخضع لمراقبة أدق في مختلف العلاقات بين مواطنيه وبين إيران، خصوصاً مع «الحرس الثوري». وضمن ما سيُراقَب ويُحاسَب عليه لبنان اليوم هو تسلم أطراف فيه السلاح المحظور أو تهريب أية أسلحة عبره الى إيران، وكذلك العلاقات المالية، علماً بأن القرار كبّل إيران في مداولاتها المصرفية والمالية. تركيا أيضاً تحت المجهر انما من منطلق آخر هو منطلق ما هو مطلوب من جيرة إيران المباشرة، جواً وبراً وبحراً. فالعقوبات الجديدة تطالب الدول بإجراءات في مطاراتها وموانئها وعلى حدودها، وهي تعطي الدول صلاحية اعتراض حركة الملاحة المشكوك فيها، من إيران أو إليها، لإجراء «عمليات تفتيش» في المياه الدولية إذا توافرت لديها معلومات بأن السفينة تحمل مواداً محظورة – الأمر الذي يطوّق إيران بحراً وبراً وجواً. فتركيا التي صوتت ضد القرار مُلزمة بموجب القانون الدولي بتنفيذ حذافير القرار شأنها شأن أية دولة عضو في الأممالمتحدة. قد يكون الإنجاز الإيراني الأهم هو خروج تركيا عن إجماع حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي تنتمي إليه من الناحية السياسية، وكذلك «قيادة» تركيا لحملة الاعتراض على العقوبات في العالم الإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط. إلا انه من الناحية الأمنية والاقتصادية، فتركيا لم، ولن تعلن انها لن تنفذ ما يطالبها به القرار 1929 لأنها لن تنتهك عمداً وجهراً قرارات مجلس الأمن الملزمة. فالانقسام داخل صفوف الحكم في تركيا لن يتطوّر الى اتخاذ قرار بانتهاك القرارات الدولية مهما صعّد أردوغان كسباً لأوراق «الزعامة» الإسلامية. والعلاقة التركية – الإيرانية مهما تقاربت وبدت علاقة تحالف، فتركيا لا تريد لإيران أن تمتلك السلاح النووي وإيران تدرك أن ما يقوم به أردوغان هو كسب زعامة الشارع الإسلامي ومصادرة الزعامة الإيرانية للقضية الفلسطينية. انها علاقة معقدة بين دولتين تحاولان التموضع جيداً في موازين الزعامة الإسلامية وموازين القوى في منطقة الشرق الأوسط. السياسة الإيرانية أدت الى عزل طهران وتطويقها بعقوبات دولية هي الأقسى بموجب قرارات مجلس الأمن وبعقوبات انفرادية وإقليمية تكبل إيران أكثر فأكثر بعد أن يقرها الاتحاد الأوروبي وكذلك الولاياتالمتحدة. السياسة التركية التي يقودها حالياً رجب طيب أردوغان تغامر مغامرة كبيرة على صعيد العلاقات التركية – الأوروبية وكذلك على صعيد العلاقات التركية – الأميركية. فمثل هذه المواقف يأخذ معنى ومنحى مختلفاً عندما يتعلق الأمر بمسألة نووية، وعندما تحاول تركيا شق صفوف الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن، وعندما تتصرف تركيا وكأنها «أقدر» من روسيا التي فشلت في إقناع طهران بما نجحت تركيا في إقناعها به. ماذا سيحدث لاحقاً للعلاقات هذه وكيف ستتصرف تركيا في مجلس الأمن لدى عودة الملف الإيراني النووي إليه؟ لا توجد سوى سابقتان هما امتناع إندونيسيا عن التصويت مرة وتصويت قطر ضد القرار مرة عندما كانت العضو العربي في مجلس الأمن. ما حدث هو أن قطر وحدها صوتت ضد القرار عام 2006 ثم صوتت مع (وليس بامتناع) عندما تبنى مجلس الأمن قرار العقوبات الأقوى من قراره السابق. أي أن قطر انتقلت من ضد الى مع. لبنان صوّت جيداً وفسّر تصويته سيئاً في جملة بدت كأنها أُقحِمت بتعليمات من مجلس الوزراء الذي انعقد للتصويت العلني على تعليمات التصويت، وانقسم. فلقد قال سفير لبنان لدى الأممالمتحدة نواف سلام أمام مجلس الأمن: «لقد قامت حكومة بلادي بدراسة موضوع التصويت المهم المعروض أمامنا اليوم، ولما لم يتبلور موقف نهائي لديها في اللحظة التي نجتمع فيها، لذلك فإن لبنان قد امتنع عن التصويت». لم يكن هناك لزوم لتطوع لبنان بمجلس وزرائه ورؤسائه ليقول لمجلس الأمن أنه ليس دولة متماسكة. كان في الوسع إجراء تصويت غير علني وعدم إصدار التعليمات للسفير في الأممالمتحدة للقيام بسابقة كهذه – سابقة ترسيخ انطباع الانقسام المحلي داخل مجلس الأمن في جلسة علنية يراقبها العالم أجمع. لم يكن هناك لزوم ليتصرف لبنان وكأنه بلد فاشل في الاتفاق على موقف، فيما كان في وسعه أن يسجل الامتناع عن التصويت كموقف سياسي مدروس له مقوماته وتبريراته. فما حدث هو أن العالم استهجن واستهزأ وضحك على تصرف كهذا فيما كان وفد لبنان لدى الأممالمتحدة قد تصرف منذ دخوله مجلس الأمن بمهنية وكسب احترام وتقدير مواقف وظروف لبنان السياسية. لم يكن هناك لزوم لكل هذا. وعلى أي حال فالزوبعة المحلية حول التصويت اللبناني وتفسيراته هي حقاً زوبعة في فنجان لبناني لا تأثير لها على أرض الواقع في العلاقة الإيرانية – الدولية. فما تراقبه الأسرة الدولية عن كثب هو ذكرى الانتخابات الإيرانية الأولى التي تصادف غداً لترى ردود الفعل الإيرانية الداخلية على العقوبات. أي إن ما يُراقب هو الإجابة على سؤال هو الأساس الذي انقسم في شأنه السياسيون والخبراء: هل العقوبات على إيران ستؤدي الى حشد الدعم الشعبي وراء النظام وشق صفوف المعارضة لمصلحته؟ أم إن الرد الشعبي على هذه العقوبات هو اعتبارها الوسيلة الضرورية لإضعاف النظام، وبالذات لكسر العمود الفقري ل «الباسيج» والحرس الثوري الذي يهيمن الآن على الحكم في إيران؟ هذا هو السؤال الذي ستبدأ الإجابة عليه في نوعية وكمية التظاهرات التي ستخرج في ذكرى الانتخابات التي فرضت محمود أحمدي نجاد رئيساًَ على رغم نتائجها فأطلقت الانتفاضة داخل إيران. لعبة شد الحبال بدأت على مستوى آخر بعد إجماع الصين وروسيا وأوروبا والولاياتالمتحدة على أقسى نظام عقوبات على إيران، مع الحرص على ترك الباب مفتوحاً أمام إيران للعودة الى المفاوضات وتعليق العقوبات. القيادة في إيران طوّقت نفسها تكراراً في تعاملها مع هذا الملف وهي كبّلت نفسها هذه المرة عندما أحرج أحمدي نجاد أردوغان باسم إبقاء «إعلان طهران» حيّاً للبناء على الحلول الديبلوماسية. بذلك، قد يكون أحمدي نجاد قدّم لنفسه طوق اللجم عن الانتقام من قرار العقوبات.