تنشغل وسائل الإعلام الأوروبية والأميركية ومراكز البحوث المعنية بدراسة الإرهاب المعولم، بالهجمات الإرهابية المزدوجة في بروكسيل، وتتركز جهود الباحثين والخبراء للكشف عن خلفيات وملابسات الحدث، وأسباب الاختراق الأمني الفاضح على الرغم من صدور تقرير استخباري قبل أيام من الهجمات يتوقع تعرض البلاد لعمل إرهابي كبير. وأشارت صحيفة «ليبر بلجيك» إلى» أن البلاد كانت تشعر باقتراب الخطر منذ هجمات باريس». وقالت: «إن الحرب على الإرهاب لن تنتهي»، منبهة إلى «أن بلجيكا لوحدها لن تستطيع مواجهة الخطر والأمر يتطلب موقفاً أوروبياً وعالمياً موحداً». فيما قالت صحيفة «درينار اور» في افتتاحية كتبها جون مارك جيراي» أن بلجيكا يجب أن تبقى متحدة في مواجهة الإرهاب لأن الوحدة تصنع القوة»، ورأت صحيفة «داتيجد» أن «الإجراءات الأمنية الحالية غير كافية» وأضافت: «إن استعراض القوة غير كاف إذا لم يتم استخدامها». هل بلجيكا في حالة حرب؟ على هذا السؤال أجابت صحيفة «ستاندرت» الصادرة في بروكسيل «إن بلجيكا في حرب مع عدو لا يعترف بأي قوانين» وأضافت: «إن هجمات بروكسيل ليست النهاية، بل بداية عهد جديد للبلاد بحياة تشهد حذراً أكبر وصرامة أكبر وربما كراهية أكبر». في أعقاب تفجيرات لندن في تموز (يوليو) 2005، كانت أوروبا في شكل عام، وبريطانيا في شكل خاص، مستعدة لأن يكون الإرهاب هو الوضع الطبيعي الجديد في القارة ، إلا أنه مع ارتفاع وتيرة العمليات الإرهابية في أوروبا الغربية ارتفعت تبعاً لها أعداد الضحايا التي تسفر عنها الهجمات». كان الباحث المتخصص في قضايا الإرهاب بيتر نيومان حذّر مراراً وتكراراً في مقالات كتبها في صحف أوروبية وأميركية من «أن أوروبا قد تضطر في يوم من الأيام إلى التعايش مع حقيقة أن الهجمات الإرهابية قد تصبح أمراً شائعاً وبوتيرة متزايدة». وخرجت صحيفة «لوسوار» البلجيكية بعنوان يقول «كونوا أقوياء». تتوافر عوامل كثيرة من شأنها تفسير السبب وراء ارتفاع وتيرة الهجمات الإرهابية التي تشهدها أوروبا خلال الأشهر الأخيرة. وذكرت جريدة «واشنطن بوست» أن «الصعود المفاجئ لتنظيم «داعش» الإرهابي إلى جانب ردود الفعل البطيئة من جانب أجهزة الأمن الأوروبية وعدم فاعليتها في رصد تحركات الآلاف من المتطرفين الإسلاميين الناشئين في الداخل الأوروبي وانتقالهم إلى سورية والعراق، لم يتغير (رد الفعل البطيء) حتى بعد عودة العديد منهم بعد تدريبه في معسكرات خاصة، بل إن بعضهم لم يتم تسجيله أو استجوابه أو توجيه الاتهام له أو سجنه حتى الآن». تلقت أجهزة الاستخبارات الأوروبية انتقادات لاذعة بسبب الروتين القاتل المتبع في تبادل المعلومات الاستخباراتية في ما بينها، والمشكلة الأكبر هي أن أوروبا كما قال المدير السابق للاستخبارات الفرنسية آلان كوايت في تصريح نقلته صحيفة «نيويورك تايمز»، متراخية في هذا الأمر وأحياناً ترفض تبادل هذه المعلومات مع أجهزة استخبارات الدول الحليفة»، وأضاف: «إن هذا النوع من المعلومات نادراً ما كان يمرر بين أجهزة الأمن الأوروبية «. وأوضح» أننا حتى لم نتفق على ترجمة أسماء المقاتلين... وبالتالي فإن شخصاً يعبر الحدود إلى أوروبا عبر استونيا أو الدنمارك على الأغلب لا يتم تسجيله في فرنسا أو اسبانيا». أظهرت تفجيرات بروكسيل ضعف أجهزة الاستخبارات البلجيكية التي يبلغ عدد العاملين فيها 600 شخص فقط، وهو ثلث عدد العاملين في وكالة الاستخبارات في هولندا، هذا على الرغم من أن عدد «الجهاديين» البلجيك الذين سافروا للقتال في سورية هو الأكبر مقارنة بعدد السكان بين الدول الأوروبية الأخرى الأعضاء، هذا في وقت يستلزم مراقبة شخص واحد على مدار 24 ساعة في اليوم ربما اكثر من 36 رجل أمن. ويقر رئيس جهاز الاستخبارات البلجيكية السابق للفترة 2006- 2014 آلان وينانت، بأن «بلجيكا كانت من آخر الدول في أوروبا التي تزودت بتجهيزات وتقنيات حديثة في جمع المعلومات مثل التنصت على الهواتف». ويوصف حي مولنبيك المزدحم في بروكسيل بأنه «قاعدة خلفية للمتطرفين» بسبب عدد المشتبه بانتمائهم لمنظمات إرهابية». ويقع الحي على بعد كيلومترات قليلة من مقري حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، على الجانب الفقير من القناة التي تشق المدينة ويمثل المسلمون 80 في المائة من سكانه ويقطنه نحو 100 الف نسمة. هذه الحي يبدو مكتظاً بالمهاجرين الأتراك والمغاربة منذ نحو 50 عاماً. ومع انه شهد بعض مستويات التحسين في السنوات الأخيرة ، إلا انه بقي على نقيض حاد مع عدد من المناطق القريبة الأكثر ثراء من المدينة. ووفقاً لما ذكرته «اسوشيتيد برس» في تقرير: «كثيراً ما يجد اولئك القادمون من خلفيات مهاجرة انفسهم في وضع غير تنافسي في سوق العمل، إذ يتحدثون الفرنسية أو العربية فقط، في حين يتطلب الكثير من الوظائف في المدينة معرفة بالفلمنكية أو الهولندية وأحياناً الانكليزية». معضلة الاثنيات واللغات بلجيكا التي يتحدث قسم من سكانها الفرنسية والقسم الآخر الهولندية، تعاني من معضلة حقيقية في تبادل المعلومات، وتوجد 6 برلمانات لأقاليم البلد تتحدث لغات مختلفة، كما يوجد 193 قوة محلية للشرطة. أما بروكسيل فهي مقسمة إلى 19 بلدية تتمتع كل واحدة منها بقدر كبير من الاستقلالية. تواجه الحكومة البلجيكية اتهامات من منظمات المجتمع المدني والقوى السياسية المعارضة بإهمال المسلمين وعدم توفير الوظائف لهم، بغية حمايتهم من الساعين لاستغلالهم وتجنيدهم في صفوف الجماعات الإرهابية مقابل المال، ويصل معدل البطالة بين الشباب في بعض المناطق إلى 40 في المائة على الرغم من ثراء بلجيكا. ويقول خبير مكافحة الإرهاب في «مركز ايجمون للأبحاث» في بروكسيل، ريك كولسايت: «بسبب صعوبة التكيف مع مجتمع معاد يتطلع الشباب من أصول عربية وإسلامية إلى شبكات بديلة يمكنهم الاختلاف فيها بسهولة». نجح «داعش» في نسج شبكة لوجستية معقدة من أجل تنفيذ هجمات في آن واحد في عواصم أوروبية عدة. وذكرت «الايكونوميست» في تعليق على الجريمة» أن اكثر ما يثير القلق في هجمات بروكسيل الأخيرة هو حجم الشبكة التي أقامها هذا التنظيم في بلجيكا وأوروبا». ورأى باحثان أميركيان درسا «التيارات المتطرفة» حول العالم، أن القيم السياسية والثقافية الفرنسية تلعب دوراً رئيساً في التطرف، وكتب وليام كاكنتس وكريستوفر ميسيرول من معهد «بروكينغز» الأميركي المرموق» أن الاعتداءات الأخيرة في بروكسيل، وتلك التي سبقتها في باريس كشفت «حقيقة مثيرة للقلق هي أن الخطر الذي يمثله المتطرفون أكبر في فرنساوبلجيكا مما هو في باقي أوروبا»، وأشارا في دراسة نشرتها مجلة «فورين افيرز» إلى أنه «على الرغم من أن الأمر يبدو غريباً، فإن أربعاً من الدول الخمس التي سجلت اكبر نسبة للتطرف في العالم هي فرنكوفونية بينها الاثنتان الأوليان في أوروبا». ويشدد ماكنتس وميسيرول ايضاً على عامل ثانوي مهم وهو التفاعل بين نسب التمدن والبطالة لدى الشبان. فعندما تتراوح نسبة التمدن بين 60 و80 في المائة، مع نسبة بطالة لدى الشبان بين 10 و30 في المائة، تظهر حينها اندفاعة التطرف، وتلاحظ هذه الفرضيات في بلدان فرنكوفونية. ويستنتجان» أن بعض ضواحي باريس ومولنبيك في بلجيكا او بن قردان في تونس تنتج عدداً «كبيراً للغاية» نسبياً من المرشحين للتطرف». الاستخبارات البلجيكية لديها كل المعلومات حول البلجيكيين الذين شاركوا في تفجيرات باريس، ولكن لم يكن لديها المعلومات التي يمكن من خلالها أن تعمل لتفادي وقوع الهجمات في بروكسيل». هذا ما أورده تقرير اللجنة البرلمانية المكلفة مراقبة عمل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في البرلمان البلجيكي.