استطاع النظام أن يقمع المعارضين الإصلاحيين في إيران، لكنهم صمدوا، ولا يزالون على قيد الوجود، يتواصلون مع قواعدهم، ويجهرون بمواقفهم، وتتركز مهمتهم الآن على حفظ رؤوسهم آملين بأن مستقبلاً لعله قريب سيحمل التغيير الذي ينشدونه. حاذر الطرفان التراجع، أو حتى الذهاب أبعد، الى ما يمكن ان ينزلق بأي منهما الى انتحار سياسي، فلا بطش السلطة اندفع الى حد «إبادة» المعارضة، ولا رموز المعارضة اجتازوا عتبة التصريح علناً بما يفكرون فيه ضمناً، وهو ان المشكلة اسمها «المرشد» وليس «الرئيس». ومع ذلك فاللعبة مستمرة، ومفتوحة على كل الاحتمالات، خصوصاً أسوأها، إذ ان النظام مدرك تماماً حقيقة أن صورته تشوّهت في الداخل، وإن كانت صورته في الخارج لا تهمه كثيراً. وعندما أعطيت الأوامر للعبث بصناديق الاقتراع ونتائج الانتخابات، كان ذلك في حد ذاته إشارة الى أن المجتمع منقسم وأن النظام لم يعد يحظى بالتأييد المطلق، فضلاً عن أنه لم يعد قادراً على توحيد الإيرانيين من حوله. ولا شك في أنه حين أفلت عناصر «الحرس» والميليشيات في الشوارع لترهيب المحتجين، ضرباً وتنكيلاً واعتقالاً، برهن انه ممسك تماماً بأدوات العنف والقوة. كما انه حين استوظف السلطة القضائية لتقنين المهانة للمعارضين وتشريعها، ولتلفيق الاتهامات وانتزاع الاعترافات بالابتزاز والتهديد، برهن أيضاً أن قضاته جلادون. لكن هذه ليست طبيعة النظام التي جرى الترويج لها طوال ثلاثين سنة. الإصلاحيون هم، من قبل ومن بعد، أبناء النظام. ولكن أي نظام؟ الأرجح أن الإيرانيين استفاقوا لحظة إعلان الفوز المخصّب لمحمود أحمدي نجاد على حقيقة ارتسمت أمام عيونهم طوال الأعوام الخمسة الماضية لكنهم أحجموا عن رؤيتها. ولم يكن الغضب الذي أبدوه حيال التلاعب بأصواتهم غضباً سياسياً فحسب، وانما صرخة من سُرق منه الحلم والأمل. ذاك أن «الانقلاب الانتخابي»، كما تسميه زهراء رهنورد زوجة الزعيم الإصلاحي مير حسين موسوي، كان عملياً انقلاباً غيّر النظام نفسه في أنظار الإيرانيين، وعاد بهم الى حقبة مظلمة. فهم كلما خرجوا الى الشارع للاحتجاج شعروا بأن التاريخ يكرر نفسه، بالأمس مع الخميني ضد الشاه واليوم مع الإصلاحيين ضد المنقلبين على الخميني. هذا النظام الذي لا يزال الإصلاحيون تحت عباءته لم يعد هو النظام الذي خدموا فيه، وفي أعلى المستويات. صحيح انه النظام الذي أتاح فسحته محمد خاتمي رئيساً لولايتين، لكنه هو أيضاً من لم يمكّنه وهو الإصلاحي من المضي في أي إصلاح. وعلى رغم أن ولايته الأولى ظلت واعدة واعتبرت انتقالية، إلا أن الثانية كانت أقرب الى حرب أهلية منها الى لعبة نفوذ سياسي تحت مظلة النظام. استُخدم خاتمي كوجه طيب للخمينية فيما كان النظام يهيئ انقلابه الذي بدأ عملياً بمجيء نجاد. فهذا رئيس يقبّل يد المرشد وينفذ قراراته ولا يلعب سوى الدور الذي يرسمه له. وهذا مرشد وجد الطريقة للتطبيق الحرفي والعملي لسلطات الولي الفقيه، مطلق الصلاحية، غير آبه بالنقاش الذي لم يحسم بعد في المؤسسة الدينية في شأن الولاية وحدود صلاحياتها. وإذ تتعرض هذه المؤسسة بدورها لضغوط، ذهب المفكر عبدالكريم سروش الى حد دعوة فقهاء قم وخراسان للهجرة الى النجف «طلباً للحرية وتخلصاً من القيود». لم يكن القمع الدامي، غداة الانتخابات قبل عام، دفاعاً عن «شرعية» فوز نجاد، وإنما كان إيذاناً بتثبيت الخامنئية ودفن الخمينية. اتجه النظام الى نمط أكثر «أصولية» من دون أن يكون ذلك بدافع الاقتراب الى مضمون النصوص، وإنما بدافع ترجيح غلبة فئة على فئة وتهميش الصوت الآخر الى حد الإلغاء. وفي الذكرى ال 21 لوفاة الإمام الخميني كان هناك حرص على ألاّ تكون المناسبة وصاحبها سوى مجرد ذكرى، وحتى هذه صادرها الخامنئيون واستغلوها لإعلان الإصلاحيين «خارجين على خط الإمام» فمنعوا من زيارة ضريحه، ولأن حفيده قريب منهم تعرض للإهانة ومنع من إلقاء كلمته. كانت طهران ردّت بغضب بالغ، في شباط (فبراير) الماضي، على اتهام هيلاري كلينتون النظام بأنه يتحول الى «ديكتاتورية»، والواقع ان هذا النظام لم يعد يعطي أي انطباع آخر في الخارج. أما في الداخل فقد كرر الإصلاحيون الإشارة الى «استبداد» لا ينفك يتبلور من خلال ممارسات الأجهزة الأمنية والسلطة القضائية، والاستبداد من الصفات التي تعني في قاموس الثورة الإسلامية حكم الشاه السابق. صحيح ان الإيرانيين يعترفون بالبعد الديني للنظام، كأحد مصادر شرعيته، لكنه يعني لهم ترفعاً عن صغائر السياسة وخلافاتها، كما يعني بالتأكيد عدم التلاعب بتصويتهم في الانتخابات. واقع الأمر أن البعد الديني اقترب أكثر من الدنيوي، ولم يعد سوى وسيلة لترهيب المعارضين، ويريد مع ذلك أن يبقى فوق النقد والاعتراض حتى مع بروز ملامح الخصومات الشخصية بين المرشد ورموز الإصلاح. فهو يخوّنهم مع علمه اليقين بأن أجهزته لم تلتقط أي ارتباط فعلي لهم مع الخارج، وهو يكاد يكفّرهم مع علمه بأن التيار الإصلاحي انبثق من الخمينية، وهو يتوعدهم مذكراً بأن بعض من رافقوا الخميني على الطائرة من باريس الى طهران «أعدموا شنقاً بتهمة الخيانة»... كل ذلك لا يعني أن المرشد مرجعية دينية وإنما الحاكم الفعلي الذي تتركز في يده كل القرارات. لعل أخطر تغيير طرأ على النظام في أزمته التي لا يعترف بها، والتي اضطرته لاستخدام القوة في التعاطي مع المجتمع، أنه عطّل توازناته الداخلية والأدوار التي كانت تقوم بها مؤسساته لضبط اللعبة السياسية. ولا شك في ان اعتماده الكلي على الحرس الثوري والميليشيات يزيد من تآكل الثقة الشعبية التي كان يتمتع بها. * صحافي وكاتب سياسي لبناني.