تقيم مؤسسة الشارقة للفنون معرضاً استعادياً للرسامة والنحاتة اللبنانية سيمون فتال ويستمر حتى شهر حزيران (يوينو) المقبل. يضم المعرض نماذج من أعمالها تسلط الضوء على مجمل المراحل والمحطات في مسارها الفني بخاصة تجربتها في السنوات الأخيرة : كولاج، رسوم زيتية من السبعينات، منحوتات، خزفيات وإحداها تمثل الأميرة ذات الهمة وابنها عبدالوهاب (متر ونصف متر طولاً)، تشكيلات طينية غير تجسيدية محاطة بالغموض من بينها مسلة الحلاج وكولاج على خارطة سورية الممزقة منذ سايكس بيكو، تكوينات نصية وحروفية... يمثل المعرض سيرة ذاتية، أبجديتها الصلصال والزيت والحبر الصيني. وبالتوازي مع معرض الشارقة، تشارك سيمون فتال ببعض أعمالها الخزفية في معرض سيراميكس الفرنسي الذي يحمل عنوان «من رودان إلى شوت» في غاليري البيت الأحمر - باريس ويستمر حتى حزيران المقبل. أذكر أول مرة رأيت فيها سيمون فتال، ذات ربيع بعيد في تونس. كانت قادمة من دكنة باريس وكأنما اغتسلت بإشراق ضوء الجنوب الذي يبدأ بالانبلاج بعد عبورك خط جزيرة سردينيا ويأخذ مداه في سماء تونس... جاءت مع إيتل عدنان وجموع الفنانين العرب المشاركين في معرض تونس «رسم على الورق». فجأة غزت المدينة موجة مغناطيس وكهرباء ناس تموج بين الغاليريهات والمقاهي والمطاعم. كانت وسط هذه الجموع تبدو خفيفة الحركة كملاك، سعيدة بأجواء الجنوب. أذكر تلك البسمة التي تتخفى وراءها والتي لا تفارق وجهها والغمازتين، وتلك النظرة البعيدة تحت الحواجب الفينيقية السوداء هكذا هي طريقتها في التخفي. كانت تخفي وراء هذا القناع سيمون الأخرى، سيمون الفوتوغرافية والرسامة والنحاتة والناشرة والمسافرة أبدا من بيروت إلى باريس إلى كاليفورنيا إلى الجزر الإغريقية... في موازاة أسفارها الداخلية التي تتجلى في أعمالها وتشكيلاتها الفنية الغامضة. بيد أن سيمون لم تكن تتحدث عن أعمالها، كانت مأخوذة بالحياة. هكذا... كان لابد أن تمر سنوات لأتعرف إلى منجزها التشكيلي. كان أول عمل رأيته لها الرسوم التي وضعتها لكتاب صديقتها الشاعرة ايتل عدنان «خمس حواس لموت واحد». لطخات ورسوم تخطيطية بالحبر الصيني، أشكال مترعة بشاعرية العفوي والمباشر، حيث الشكل هو المضمون الذي يدرك مباشرة إذ يسري في الأعماق. ظلت سيمون ولسنوات مرتبطة في الذاكرة بتلك الرسوم بشعر ايتل عدنان بربيع تونس. ثم ذات سنة في باريس، أرتني رداء مطرزاً بحروف عربية! والآن التبس عليّ الأمر. أكانت نصاً للحلاج؟ المهم في التشكيل هو المرئي الذي يحيل إلى العالم اللّامرئي في أعماقك. ثم أوغلت في عالمها أكثر، يوم أخذتني إلى دار الفنون في باريس لتهيئ معرضها قبل الافتتاح والذي انتقل لاحقاً إلى غاليري تانيت في بيروت. كان في مجمله أعمالاً على الفخار، مجسمات طينية تجمع بين ليونة الصلصال وصلابة الفخار. وكيف لا تفعل وهي القادمة من تلك الأرض الكنعانية المريرة، حيث احتفى أسلافها بالفخار في حياتهم وطقوسهم الدينية. استحضرت سيمون في ذاك المعرض أناساً أسطوريين عبروا المحارق كلها، شعوباً غابرة أيقظتها كما يقول شوقي من رقدة العدم. جاءت الأميرة ذات الهمّة وابنها عبدالوهاب وقبلهما الطرواديون، جاء أوديسيوس وبينيلوبي، وجاء ديونيزوس... مخلوقات بدائية تنهض من أعماق الماضي المظلمة تقف بإصرار وتحدّ خارج الزمن. أعمال تحمل في آن بصمة البدائي والطفل: قوة التلقائية والمباشرة. أعمال لا تحيل إلى مرجع لا تذكرك بشيء سبق أن رأيته لأنها قادمة من ليل الأعماق. كلّ عمل يحمل مبررات وجوده من خلال وجوده نفسه، هو المادّة التي تصدي الروح المتفرد. في شغلها أيضاً شيء من مدرسة التجريد الانطباعي الأميركية وكيف لا يكون؟ وقد وصلت أميركا لحظة الانفجار الفني الكبير الذي أحدثه بولوك وغوركي اللذان قادا عملية تطهير فني شاملة حررت فعل الخلق نهائياً من الكوابح والضوابط والرقابة الذهنية والأخلاقية والاستيتيقية وجعلته في آن مستعصياً على المتلقي العادي. وقد أفادت سيمون من هذا المناخ، فجاءت أعمالها مزيجاً ابداعياً من غنائية شرقية وتجريد تعبيري.