«... مرحبا أيها الديكتاتور». بهذه العبارة حيا رئيس المفوضية الأوروبية جان - كلود يونكر رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان أمام كاميرات محطات التلفزة العالمية خلال قمة الاتحاد الأوروبي مع الشركاء من دول أوروبا الشرقية الأعضاء التي عقدت في ريغا عاصمة لاتفيا في أيار (مايو) العام الماضي. أوربان استقبل عبارة يونكر كمزحة على خلاف المعجبين به في الداخل والخارج التي عدوها إهانة متعمدة. مضت سنوات عدة على نشوب التوتر في علاقات الاتحاد مع هنغاريا المتهم رئيس حكومتها أوربان بالتمرد وعدم الالتزام بمعاهدة العضوية وبنزعات انفرادية في الحكم ونهج استبدادي في قيادة البلاد إلى حد أن الميديا المحلية والأوروبية لجأت إلى السخرية من أوربان وسمّته «ديكتاتوراً» من دون أن تتمكن على رغم ذلك من التأثير في شعبيته أو خفض أعداد داعمي سياساته في الداخل ومشاكسته الاتحاد الأوروبي، فقد واصل الهنغاريون التصويت له ولحزبه «فيدس» المرة تلو الأخرى ورسّخوا وجوده في السلطة لثلاث دورات متتالية حتى الآن، وذلك حينما كسب حزبه في نيسان (أبريل) 2015 وبغالبية حاسمة الانتخابات العامة ومن ثم بعد ذلك بشهر واحد فقط كسب انتخابات البرلمان الأوروبي. مخاوف المراقبين من دخول هنغاريا في حال فوز زعيم حزب فيدس (يمين وسط) بعد الانتخابات في مرحلة جديدة من التسلط والاستبداد لم تكن بعيدة من معطيات وموازين القوى السياسية وأمزجة الرأي العام الذي لم يعرْ أي انتباه لتحذيراتهم من أن منحهم أوربان كميات من الثقة الفائضة سيجعله أكثر ديكتاتورية وعنجهية في تعامله مع معارضيه في الداخل وأكثر عدوانية في صدامه مع المفوضية الأوروبية، وهو ما تأكد لاحقاً في حدثين أثارا ردود فعل أوروبية غاضبة غذّت قوى المعارضة ومنظمات المجتمع المدني بشحنات قوة اضافية تعنيها في المواجهة معه. عداوة فاضحة للمجتمع المدني في 2 حزيران (يونيو) 2015 اقتحم رجال الأمن مكاتب ثلاث منظمات غير حكومية تتلقى تمويلاً من النرويج لتنفيذ برامج محددة في قطاعات مختلفة، وذلك بمقتضى بنود اتفاقية بين المفوضية الأوروبية وأربع دول هي : النرويج، وأيسلندا، وإسبانيا، وليختنشتاين تنص على دعم بلدان أوروبية شرقية لتحفيز اقتصاداتها وتطوير مشاريع صغيرة تابعة للقطاع الخاص. المنظمات الثلاث التي اقتحمتها الشرطة معروفة وفق ما ورد في وسائل الإعلام المحلية بانتقاداتها العنيفة لحكومة أوربان التي لم تتوان عن تجاهل متطلبات اللياقة الديبلوماسية في العلاقات بين الدول الأوروبية الأعضاء، ووجهت اتهامات مباشرة لأوسلو بالتدخل في شؤون البلاد الداخلية. واعتبر النائب السابق من حزب «فيدس» الحاكم ومدير إحدى هذه المؤسسات (Hungarian Europe Society) اشتيفان هيديغوش «أن السلطات الحاكمة تسعى إلى التحكم بمنظمات المجتمع المدني» وأكد أن «ما حصل ليس إلا إجراء هدفه سياسي بحت لإظهار أن من يحكم هنغاريا هو أوربان وليس الاتحاد الأوروبي». تتهم الحكومة هذه المنظمات بتوزيع الأموال على هيئات تنفذ مشاريع تابعة لأحزاب سياسية، أحدها الحزب الليبرالي الأخضر الذي نجح خلال الانتخابات في تخطي عتبة ال 5 في المئة اللازمة لدخول البرلمان، وحصل أيضاً على مقعد نيابي واحد في البرلمان الأوروبي. وعلى الفور قامت هيئة الرقابة الحكومية بإرسال طاقم من المحاسبين والمفتشين إلى مؤسستين أخريين لديها روابط وصلات عمل مع المنظمات الثلاث لإجراء عمليات جرد وتفتيش بحجة معلومات عن تهربها من دفع الضرائب وانتهاك القوانين. وتزامن هذا الإجراء مع قيام مدير مكتب رئيس الحكومة يانوش لازار ببعث رسالة إلى وزير الشؤون الأوروبية في الحكومة النرويجية فيدار هلغيسن يشير فيها إلى توافر أدلة تثبت «وجود محاولات من بلاده للتدخل في السياسة الداخلية لهنغاريا». وأرفق رسالته بقائمة تتضمن أسماء الجهات التي تلقّت الأموال من المنظمات الثلاث غالبيتها معروفة بروابطها مع منظمات ذات توجهات يسارية مثل منظمة الشفافية الدولية والاتحاد الهنغاري للحريات المدنية وموقع للصحافة الاستقصائية (atlatszo.hu) ينشر مقالات تفضح الفساد في الحكومة وعلاقاتها مع جماعات الأوليغارشية التي تتلاعب بصفقات الدولة والمال العام. ردّ النرويج على هذا الاتهام جاء متحدياً، إذ أكدت في تصريح أدلى به هلغيسن إلى وكالة رويترز «أن حكومة بلاده ستواصل تقديم التمويلات للمنظمات الثلاث، وستقوم في وقت لاحق بعمليات تفتيش وجرد لحساباتها» وأضافت» من مصلحتنا أن ندعم أي حزب سياسي جزء من المنظومة الديموقراطية في البلاد»، وقال «من الصعب علينا إيجاد أساس موضوعي لهذه الاتهامات» مشيراً إلى «أن النرويج قدمت خلال الفترة 2009- 2014 مبلغاً قدره 153.3 مليون يورو إلى هنغاريا منها 12 مليوناً أنفقت على أكثر من 100 مشروع». يمتلك أوربان قوة إضافية تحصنه ضد أي انتقادات توجهها تكتلات سياسية في البرلمان الأوروبي لسياساته الشعبوية وانتهاكاته الفاضحة لحقوق الإنسان ومبدأ سيادة القانون، مصدرها عضوية حزبه «فيدس» في منظومة الحزب الشعبي الأوروبي الذي يمتلك الكتلة الأكبر في البرلمان الأوروبي. وقال أحد مساعدي يونكر في تصريح نقلته أسبوعية «كابيتال» الصادرة في صوفيا «إن عضوية فيدس في الحزب الشعبي الأوروبي تعطي زعماء مثل المستشارة الألمانية مركل إمكانية ممارسة ضغوط غير رسمية على أوربان لإبعاده عن الوقوع أكثر وفي شكل أخطر في أحضان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي تربطه به علاقة شخصية وثيقة ومميزة» إلى حد أنه يؤثر في أحيان كثيرة في قراراته السياسية. نائب رئيس المفوضية الأوروبية الهولندي الاشتراكي فرانس تيمرمانس كان أحد أربعة وزراء خارجية من الدول الأعضاء وقّع في 2013 على رسالة موجهة إلى المفوضية تدعوها إلى اتباع سياسة أكثر تشدداً وفعالية في الدفاع عن القيم الأوروبية الأساسية بما فيها وقف التمويلات من الصناديق الأوروبية لأي دولة من الدول الأعضاء تقوم بخرقها وانتهاكها، وقال موجهاً كلامه لأوربان عبر منصة البرلمان الأوروبي «لا يحق لك أن تتعلل بفوزك في الانتخابات أو تحقيقك بعض النجاحات الاقتصادية وتستخدمها مبرراً لخرق مبدأ سيادة القانون». مفاجآت بلا حدود مفاجآت أوربان وتحدّيه للاتحاد الأوروبي ليست لها نهاية أو حدود فهو لا يعبأ بانتقادات المفوضية الأوروبية وتهديداتها بإنزال أقصى العقوبات المالية على بلاده في حال واصل تخطيه الخطوط الحمر، وقام على رغم كل ذلك بإعلان مسودة لدستور جديد للبلاد استحق عن جدارة وصف المعارضة والميديا له ب «دستور أوربان» فهو وفق المعارضة ومنظمات المجتمع المدني يرسّخ بأحكامه ومواده جذور الأحزاب الكبيرة وفي شكل خاص حزبه في السلطة على حساب الأحزاب الأصغر ولفترة غير محددة في الزمن ويكرسه زعيماً أوحداً في البلاد. خبراء القانون الدستوري في البلاد أصدروا وثيقة تتضمن انتقادات شديدة ولاذعة لصيغة الدستور كونها تمنح السياسيين مفاصل تشريعية للتدخل في المنظومة القضائية ما سيؤدي إلى تقويض استقلالية المحاكم والقضاء، فضلاً عن أن الكثير من بنوده تنتهك الحريات الدينية بحيث تقلص عدد الأديان المعترف بها في البلاد من 300 إلى 14 فقط. ويحظر الدستور المقترح الديانات الإسلامية والهندوسية والبوذية وغيرها من الأقليات الدينية الصغيرة، ما يعني في المحصلة حرمانها كلها من تمويلات الدولة التي تعينها على ممارسة نشاطاتها المشروعة، وليس هذا فقط، بل إن أحد البنود يربط الاعتراف بشرعية أي ديانة بمصادقة البرلمان الذي تعود فيه الغالبية إلى «فيدس» حزب أوربان. أحد بنود الدستور الذي على رغم اعتراضات المعارضة وانتقادات وسائل الإعلام وتحفّظات خبراء القانون الدستوري حصل على توقيع رئيس الدولة ودخل حيز التنفيذ العام 2012 وينص على منح الجنسية الهنغارية وحق المشاركة في الانتخابات للجاليات الهنغارية في الخارج. يوجد في رومانيا مليون و400 ألف هنغاري، وفي سلوفاكيا نصف مليون، وفي صربيا 300 ألف، وفي أوكرانيا 250 ألفاً، وبهذا يكون أوربان قد ضمن أصوات كل هؤلاء لمصلحة حزبه في الانتخابات المقبلة وفي المستقبل كثمن لحصولهم على الجنسية الهنغارية. بعد أسبوع من تودده لرئيس المفوضية وللاتحاد الأوروبي في خطاب ألقاه في مؤتمر الحزب الشعبي الأوروبي في دبلن، خرج أوربان في 15 آذار (مارس) الماضي بخطاب مضاد تماماً وأمام آلاف من مؤيديه في احتفال لمناسبة عيد الاستقلال قائلاً إن «هنغاريا تواجه أعداء أقوى منها لديهم قدرات اقتصادية ومالية ضخمة، وعاصمة أمبريالية ملمحاً إلى بروكسيل عاصمة الاتحاد الأوروبي، مشدداً على «أن حكومته تدافع عن مصالح الهنغاريين ومستقبل عائلاتهم ضد مرابين ومحتكرين وبيروقراطيين أمبرياليين مشيراً إلى القادة الأوروبيين. وعلّقت جريدة «واشنطن بوست» في مقالة بعنوان «هنغاريا على طريق البوتينية» قائلة «ليس مستغرباً أن يتحدث أوربان بهذه الطريقة، فهو كان قد صرح قبل11 عاماً في أول ولاية لحزبه ب «أن هنغاريا ليست معنية بالتكيف مع الاتحاد الأوروبي، بل العكس هو من ينبغي عليه التكيف مع هنغاريا». وقالت جريدة «فايننشال تايمز» إن «سلوك أوربان وصل إلى حد تحوله إلى خطر وتهديد حقيقي للديمقراطية». وبالتزامن مع هذه العبارات الرنانة والعدائية اتسعت مظاهر وتوجهات أوربان للتقارب اقتصادياً أكثر فأكثر مع روسيا والصين، وزار موسكو حيث حصل من بوتين على ضمانات بقرض بمبلغ 10 بلايين يورو لتوسيع محطة توليد الطاقة الكهربائية النووية «باسك»، وبعدها بأسابيع طلب من بكين المزيد من الاستثمارات مذكّراً القادة الشيوعيين بأن بلاده لا تتدخّل في الشؤون الداخلية للصين. ووفقاً للمحلل في «معهد الروابط الدولية» في وارسو داريوش كالان «أن توسيع أوربان علاقاته الاقتصادية والسياسية مع هاتين الدولتين يضر بالاتحاد الأوروبي لأن بوتين يستغله لمصلحة إستراتيجيته الرامية إلى إضعاف الاتحاد الأوروبي وتقويضه من الداخل». يجمع المحللون الغربيون على أن هدف أوربان الأساسي يتمثل في تدعيم مواقع وقوة معسكر مناهضي الاتحاد الأوروبي الداعين إلى مزيد من الاستقلالية للحكومات الوطنية تحت شعار «أوروبا ملك شعوبها» التي يكون الدور الرئيسي فيها للقيم المسيحية المحافظة. بطل قومي أم مخاتل؟ قادة الاتحاد الأوروبي فشلوا حتى الآن ويبدو أنهم لن ينجحوا في لجم تمرّد القوميّ المتشدّد أوربان، وتقويض طموحاته الاستقلالية، وسعيه الحثيث إلى جذب المزيد من الدول الأعضاء التي تتنامى في مجتمعاتها أحزاب ذات نزعات مماثلة ومناهضة للمشروع الأوروبي، وترى في شخصيته بطلاً مدافعاً عن السيادة الوطنية». أوربان يتصدّر لائحة الزعماء الأوروبيين والأحزاب القومية المتشدّدة الصاعدة والتي تخضع ممارساتها لرقابة متواصلة من الهيئات الأوروبية، وفق ما أكدته مساعدة الهيئة التنفيذية للاتحاد الأوروبي المسؤولة عن الالتزام والتقيد بالاتفاقيات الأوروبية بما فيها مسائل حقوق الإنسان وسيادة القانون. وقالت المفوضية الأوروبية للشؤون العدلية السابقة فيفيان ريدينغ «إن أوربان الذي يعتمد ديمقراطية مشوّهة وموجّهة على الطريقة البوتينية يحتال بذكاء على لوائح القيم الأوروبية لتشريع قوانين وتشريعات تتنافي مع المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان». وتابعت ريدينغ التي كانت اتخذت إجراءات عقابية بحق أوربان وحكومته: «لم تنفع هذه الإجراءات في إرغام أوربان على تغيير نهجه، ولكنها منعته من تدمير استقلالية القضاء واستغلال مؤسسات الدولة المعنية بالبيانات العامة» واضافت: «لقد تمكنت من وقف حدوث الأسوأ». «فيدس» مازال الحزب الأقوى والأكثر شعبية، وأوربان تكبر في سياساته كرة ثلج الاستبداد والتحدي والتعالي على الاتحاد الأوروبي، واستطلاعات الرأي الأخيرة لم تسجل أي تراجع دراماتيكي في شعبيته ودعم الناخبين حزبه. إذ يتبين من آخر استطلاع حدوث تراجع طفيف للغاية في شعبيته من 53 في المئة إلى 51 في المئة فقط. ويعود السبب برأي المحللين إلى غياب بديل أقوى بين أحزاب المعارضة التي تعاني كلها من الجمود والتكلّس والانقسامات الحادة، فالحزب الاشتراكي وريث الشيوعي مازالت تتحكم فيه شخصيات من العهد البائد عفّى عليها الزمن وسئم المجتمع من وجوهها الكالحة، فيما حزب «يوبيك» اليميني المتطرّف، وحزب الخضر يجذبان فئات محدودة في المجتمع. ووفق «فايننشال تايمز» فإننا «إذا تجاهلنا الطبيعة الانتقامية ل «فيدس» والنزعة الانفرادية في الحكم لزعيمه، نستطيع القول إن الكثير من برامجه يتصّف بالعقلانية والبراغماتية، إلا أن مشكلة هذا الحزب الأساسية تتمثّل في نهج أوربان البوتيني وسلوكه الاستفزازي وعدائه لقيم المشروع الأوروبي».