تبدو من الخارج أنها زيارة كلاسيكية رسمية تقليدية بحتة، إلا أن تفاصيلها الدقيقة وخطوطها الشعبية وهوامشها الفرعية تنضح بعكس ذلك. فمن «بلكونة السيسي» التي تحولت إلى «بلكونة السيسي وسلمان» إلى الرئيس الذي استبق الترحيب بالملك بتغريدة وصفها كثيرون بأنها «من القلب»، ومنهما إلى مصريين اعتبروا هاشتاق «مصر ترحب بالملك سلمان» نقطة انطلاق شعبية للترحيب بالزيارة الملكية. الزيارة التي بدأت أمس يتعامل معها قطاع من المصريين باعتبارها رمزاً ورسالة أكثر من كونها سياسة واقتصاداً، أو تأكيداً على الأخوة ونفياً للشقاق «على الرغم من قبول الاختلافات وليس الخلافات»، بحسب مستمع أجرى مداخلة هاتفية مع محطة إذاعية تعليقاً على الزيارة التاريخية. المستمع قال إن «على الجميع أن يسلم بأن العلاقة بين مصر والسعودية ليست اختياراً بل ضرورة حتمية لبقاء الأمة العربية. وعلى الجميع أيضاً أن يصحو على واقع نتجاهله عربياً، ألا وهو أن السياسة لا مجال فيها لسواد العيون أو تطبيب القلوب إلا في أضيق الحدود. السياسة مصالح متشاركة وتوازنات متبادلة من أجل صالح الشعوب كلها». لكن الشعوب نفسها تظل محتفظة بهامش ليس قليلاً من «زمن السياسة الجميل» وقت كانت العلاقات الأخوية تطغى على المصالح الوطنية، والتاريخ المشترك يتفوق على المصير المشترك، وروابط النسب وصلات الرحم لها السطوة على روابط النفط وصلات الاستثمار. وينعكس هذا الاحتفاظ تغريداً حيث قفز هاشتاق «مصر ترحب بالملك سلمان» غلى قمة ال»تريند» على تويتر عبر مصريين وسعوديين وجنسيات عربية مختلفة للمشاركة في الاحتفاء بالزيارة المهمة عربياً وليس على مستوى الدولتين فقط. ومن تعبيرات شعبية مصرية بحتة حيث «تويتة من زعيم إلى زعيم» و»أهلاً وسهلاً بملك السعودية في بلدكم الثاني» ضمن إعادة تغريد لتغريدة الرئيس السيسي «أرحب بأخي جلالة الملك سلمان بن عبد العزيز خادم الحرمين الشريفين عل أرض وطنه الثاني مصر»، إلى توصيف للمشاعر المتبادلة «اليوم لا مساحة إلا للقلوب والحب والوفاء. اليوم سعودي الهوى مصري الابتسامة». ومن المشاعر العاطفية إلى الوقائع القومية حيث «مصر والسعودية جناحا الأمن القومي العربي بتوحدهما سنكون قوة نرهب بها الأعداء ولا عزاء للخونة الذي يريدون التفرقة» و»طالما مصر والسعودية يداً واحدة في القضايا العربية الكبرى ستبقى الأمة صامدة في وجه الإرهاب»، اشتعل أثير العنكبوت ترحيباً، وإن ظل جانب منه نوعاً من أنواع «كيد العزال» و»رد كيد المتربصين» حيث «مصر والسعودية شوكة في حلق الخونة وتجار الدين والدم» و»الإخوان وأعداء البلدين والمتربصين بالأمة العربية في مندبة. موتوا بغيظكم». لكن لحسن الحظ إن مشاعر الغيظ لم يكن لها اليد العليا يوم أمس، بل التصق المصريون في أماكن عدة بشاشات التلفزيون التي بثت وصول خادم الحرمين الشريفين والوفد المرافق له لحظة بلحظة. وعلى غير العادة، دقق الجميع في كل كبيرة وصغيرة في مراسم الاحتفال وحفاوة الاستقبال، وذلك على وقع آلاف الأعلام المصرية والسعودية التي ملأت الشوارع الرئيسية في القاهرة. لكن شوارع فرعية أخرى حفلت بمظاهر استقبال وحفاوة ورسائل رمزية بالغة الذكاء والوطنية، وأبرزها «بلكونة السيسي» التي تحولت يوم أمس إلى «بلكونة السيسي وسلمان». السيدة تهاني محمد سلامة سيدة ستينية تسكن في شارع نهرو الجانبي في حي مصر الجديدة، وهي صاحبة الشرفة الأشهر في القاهرة والتي لم تخلُ على مدار الأعوام الثلاثة الماضية من لافتات ضخمة تحمل انتماءاتها الوطنية وتعبر عن أيديولوجيتها المصرية الرافضة هي وأسرتها الممتدة من أبناء وبنات وأخوات وأخوة وأحفاد لحكم الإخوان والمناصرة للرئيس عبد الفتاح السيسي ودائمة الشكر والترحاب للدول العربية التي ساندت مصر ودعمتها في «محنتها القاسية». الشرفة التي ترفرف فيها الأعلام المصرية طيلة السنوات الماضية، وتناوبت عليها لافتات شتى بين دعم الرئيس السيسي لإنهاء حكم الإخوان، مروراً بتأييده والمشروعات المصرية الكبرى ومواكبة الأحداث الرئيسية. ويوم أمس استيقظ سكان الشارع على علمين ضخمين لمصر والسعودية على جانبي الشرفة، ولافتة ضخمة تحمل هذه الكلمات «حللت أهلاً ونزلت سهلاً. شعب واحد وطن واحد. السيسي مع سلمان: لقاء لخدمة الأوطان». قالت السيدة بنبرة ملؤها الحماسة والصدق: «عمري ما صدقت أن هناك جفاءً أو فراقاً بين مصر والسعودية. فالبلدان عمودا الأمة العربية وصمام أمانها. وزيارة ملك السعودية تاريخية بكل معاني الكلمة. وهي رسالة للداخل والخارج وما بينهما، وما أدراك ما بينهما». وما بين اللافتة الضخمة التي تؤكد السيدة سلامة أنها تكتب كل كلمة فيها بنفسها وبعد تفكير عميق، وأعلام تنفق من مالها الشخصي عليها لأنها «واجب وطني»، تؤكد أن الخطاط يجهز بقية اللافتات التي سيتم تثبيتها تباعاً في الشرفة احتفاء بالملك سلمان. تقول: «شرفتي أشبه بالمنصة الإعلامية والتوعوية للمارة. فأنا مواطنة مصرية عادية، ليس لي أطماع سياسية ولا اقتصادية. لكن كل ما يهمني خير بلدي وأمتي العربية. قد نختلف وقد نتباعد، لكن مصيرنا واحد شئنا أو أبينا». وقد أبت غالبية المصريين إلا أن تتابع مراسم الزيارة أولاً بأول، إن لم يكن التصاقاً بالشاشات فاستماعاً إلى الإذاعات، وإن لم يكن هذا أو ذاك فبحثاً عن ملخصات للأخبار لأنها زيارة محورية في أوقات صعبة تعيشها الأمة العربية ولم يعد البلدان وشعباهما يملكان رفاهية الخلاف أو حرية الاختلاف، فقط حتمية الائتلاف. قمة مصرية- سعودية تعزز العمل العربي المشترك في مواجهة التحديات حفاوة وترحيب لافتان بخادم الحرمين الشريفين