يبدو الفيلم الإستوني «1944»، الذي عُرض قبل فترة ضمن أفلام المُسابقة الرسمية في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وكأنه صورة مُصغرَة للعالم الذي يبدو واسعاً لكنه ليس كذلك، إذ يُفتتح بمشهد لحرب بين فريقين، أحدهما كتيبة تُقاتل من داخل الخنادق، والآخر كتيبة مُهاجِمة تُطلِق مدفعيتها الثقيلة ولا تعود قبل أن تكون قد حصدت جرحى وموتى عند العدو، وخسرت جرحى وموتى من فريقها. إنه مشهد عبثي تماماً، ينتهي بأن ينسحب الجنود المُهاجمون هاربين من الرصاص الذي يُمكن أن يطاولهم، بينما الجنود المُدافعون يستعدون لهُدنة قصيرة يستريحون فيها ويودعون موتاهم. يتحدث الفيلم عن آخر أعوام الحرب العالمية الثانية، حين تم توريط إستونيا بين قوتين تتصارعان، ألمانيا وروسيا. وكي تكتمل الفجيعة، نلاحظ إن الشباب الإستوني وجد نفسه مُضطراً للخدمة في أحد الجيشين غصباً ومن دون قدرة على الاختيار، وبالتالي فإن الإنسان لم يعد الآن يواجه عدواً فقط، إنه يُمكن أن يواجه أخاه في الجيش الآخر، وهو ما سيحدث لاحقاً في الفيلم. مع ذلك، الطريقة السينمائية التي يُقدمها مُخرج الفيلم ألمو نوجانين هي أكثر ما يُوجز وجهة النظر الفلسفية في الحكاية؛ فألمو لا يحكي الأحداث فقط من وجهة نظر الجماعة الإستونية التي وجدت نفسها منذورة للموت عام 1944 بلا ما تُدافع عنه حقيقة، لكنه أيضاً يُظلل المعنى بشكل مُقبِض على طول الفيلم، إذ يبدأ الفيلم برواية كارل تاميك، الجندي الذي يكتب الخطابات لأخته مُسجلاً لها «كيف لم يعد بإمكانه التعرف إلى نفسه». ويستمر الفيلم مع كارل كسارد لموته المُحتمَل، وموت زملائه، وحين يُصبح من المتوقع أن يُكمل كارل سرد حياته داخل هذه الحرب، التي تبدو في عينيه رُكناً ضيقاً من العالم لا يستطيع النجاة منه، حين يُصبح حضور كارل مألوفاً، يموت كارل ببساطة بيد زميله الإستوني الذي يُحارب على الجبهة الأخرى، يوري يوجي. وهكذا فإن الفيلم ولمدة ثُلث الساعة سوف يبقى فارغاً بلا بطل. وكأن البطل الحقيقي شخص خطط لكل هذا ثم خرج من الصورة تماماً. وعن طريق هذا الموت الذي يعيشه المُتلقي مُتقدماً بتفاصيل كاملة، سوف تكون عملية البحث عن بطل ثان داخل الفيلم سؤالاً آخر مُحيراً، فالجنود الذين يظهرون أمام الكاميرا، بخيباتهم ومخاوفهم، وحتى ارتباطهم الطفولي بأمهاتهم، يُمكنهم أن يسقطوا ببساطة في أي لحظة موتى. ثمة مشهد طويل، لطائرة حربية تقتل مدنيين، وهُم يتحركون في سلام إلى مدينة أخرى يُمكنهم أن يستريحوا فيهم، تبدو الكاميرا في المشهد محبوسة وعاجزة حتى عن إنقاذ الطفلة الصغيرة، التي ظلت واقفة ببلاهة وسط النيران تتأمل دُميتها، ثم إن كارل الذي يُنقذها سوف يموت بعد قليل في مشهدٍ لاحق. يعمل شريط الصوت في الفيلم، بأغنياته الوطنية التي تتردد بعدمية، وأصوات الرصاص والنار وسقطات الأجساد المكتومة، إضافة إلى الثيمات الموسيقية التي تتكرر وتتنوع وتتغير، في إدخال المُتلقي أكثر إلى الحرب كتجربة لا يُريد أحدُ الدخول فيها. وخلال هذه الفجوة الزمنية بين موت بطل وظهور آخر، تأتي المرأة آينو تاميك، شقيقة كارل التي كان يكتب لها، كي تُعيد فكرة المجاز عن المرأة كوالِدة، ليس فقط لأبناء آخرين ولكن للمشاعر التي بهتت نضارتها داخل هذا العراك الصبياني الذي يقضي على العالم. عند آينو، يتعمّد يوري يوجي كبطل للثُلث الأخير من الفيلم، يوري الذي قتل كارل، أن يعيش ليلة سعيدة مع الحبيبة/ الشقيقة، يعرف أنه سوف يدفع ثمنها هو الذي «ليس له من عائلة سوى جنوده»، تبدأ بنعومة وتنتهي بوعدٍ أن يكتب لها من الحرب، العلامة التي تُدشن يوري كبطل بديل، يعرف المُتلقي أنه يُمكن أن يسقط أيضاً. وكما يحدث عادة في الحرب، لا تحفل آينو كثيراً بالمُستقبل، مع يوري، ولا بالماضي، إنها تحدس؛ ربما يكون هو قاتل أخيها، ولو على مستوى الانتماء لا بفعل القتل، لكنها تُخبره أنها قد سامحت القاتل، وهكذا يأخذ الفيلم منحى أكثر إرباكاً في مسألة كسر المتوقَع من السرد الفيلمي. يموت يوري في لحظة ما مُدافعاً عن حُبه ربما، وهو يعصي أوامر قائده بقتل صبية صغار، لا ذنب لهم في الحرب، وآخر ما كتبه لآينو «أنتِ كل مَنْ تبقى لي».