هل المشكلة في أن هناك نوعاً وحيداً من الأغاني ينحاز اليه أهل الغناء في العالم العربي، وشركات الانتاج؟ أم إن المشكلة تقع في تركيز وسائل الإعلام على ذلك النوع الموجود في كل ألبوم تقريباً، وإهمال الأنواع الغنائية الأخرى الموجودة أيضاً في كل ألبوم؟ الجواب عن هذا السؤال كامن في الحالين المذكورين: أي أن المشكلة موجودة في إنتاج نوع وحيد أو شبه وحيد من الأغاني يُستنسَخ بطريقة أو أخرى على شكل عدوى متنقلة، وموجودة أيضاً في عقول الفنانين والإذاعات والمحطات الفضائية التي تعتبر أن هوى الجمهور المراهق ومزاجه وتلبية رغباته هو المطلوب في المقام الأول، لأنه هو الذي يفرض شروطه التسويقية في كل مكان إنتاجي أو إعلامي أو فني! من هنا، فإن المشكلة مزدوجة، وحلّها لا يتمّ عبر إيلاء الأهمية جانباً منها وترك الجانب الآخر، بل باكتشاف «المرض» أولاً ثم تصنيفه وتحديده وبعد ذلك رسم خريطة طريق النجاة للفن الغنائي العربي الذي كان ذات يوم، دليلاً على نهضة غنائية وموسيقية لمجتمع بكامله، وأضحى دليلاً على تردّي الذوق العام في المجتمع الذي تسبب به تردّي الذوق «الخاص» لدى الفنانين وشركات الإنتاج ووسائل الإعلام، كل بحسب «قدرته» في التنازلات! إن كثرة الأصوات الغنائية في العالم العربي ليست أمراً سيِّئاً في حد ذاته. إنها في بعض الحالات مؤشر عافية فنية في المواهب الجديدة التي يستطيع بعضها اجتراح جديد حقيقي لو توافرت له الظروف. لكن السيِّئ هو توجيه تلك الأصوات في خط غنائي واحد لخدمة ذوق واحد مما أدَّى ذلك الى انتشار منطق فني واحد فرض مقاييسه وألغى الخطوط الغنائية الأخرى والأذواق الأخرى التي يُفترض أن يفضي وجودها الى انتشار أكثر من منطق فني فتصبح إمكانات الاختيار أمام الجمهور واسعة، وتُفتح أبواب الاحتمالات: ديانا كرزون وملحم زين أبرز الضحايا! إنّ التشبه بالآخرين، وهو الصفة الرديئة الأبرز التي يصرّ بعض نجوم الغناء على الالتصاق بها، تحجب عنهم القدرة على الابتكار والبحث عن الذات في داخل الذات لا في خارجها، فما أن ينجح «نموذج» لأغنية معينة في الوصول الى الناس حتى يُصبح تقليعة رائجة يتهافت عليها معظمهم، وشيئاً فشيئاً ينسى الفنانون طبيعة أصواتهم وطاقاتها وهويتها ويلتحقون ب «النموذج» الرائج، فيغيب الاختلاف الذي يصنع الحياة ككل لا الحياة الفنية فحسب، وتحشر المواهب المتميزة نفسها في الطابور الذي غالباً لا يناسبها. وهكذا... لا يستفيد «نموذج» الأغنية شيئاً من الأصوات التي تبنّته عن جهل، ولا «تستفيد» تلك الأصوات إلا مزيداً من الضياع وتبديد نقاط القوة فيها! ومع أن تجارب كثير من أهل الغناء العربي في السنوات الماضية وقعت في هذا الفخ المغري وندم أصحابها ندامة «الكُسَعي»، فإن كثيراً من أهل الغناء حالياً يقعون في الفخ نفسه، ولا يكلفون أنفسهم عناء التأمّل في تجارب من سبقهم في الأمس القريب، ولا يحاولون التدقيق في إمكاناتهم ودراستها وفهم نقاط القوة والضعف فيها من أجل السير في الاتجاه الأسلم، بل يستسلمون للواقع الذي نجح فيه غيرهم معتقدين أنهم سينجحون فيه. ويضاف الى ذلك، التشجيع (الاعتباطي غالباً) الذي يلقونه من شركات الانتاج التي نادراً ما تتحمل مسؤولية اكتشاف شخصية المغني من خلال صوتها هي لا من خلال استعارة أصوات الآخرين والقياس بها! ويأتي دور وسائل الإعلام التي قد يتهمها البعض وقد يبرئها البعض الآخر: يتهمونها بأنها تختار «الأبسط» والأكثر سذاجة من الأغاني لنشرها وتعميمها. وهذا ثابت بالوقائع. ويبرِّئونها لأن شركات الإنتاج من جهة، والفنانين من جهة ثانية هم الذين يطلبون إليها «دعم» هذه الأغنية دون تلك، وهم الذين يختارون تصوير هذه الأغنية دون تلك، ف «تنجح» هذه الأغاني و «تفشل» تلك. نعود الى المربّع الأول ونقول: قل لي ما هي ثقافتك أقل لك أي فنان أنت.