أفاقت إسرائيل غداة جريمتها ضد «أسطول الحرية» على وقع تنديد عالمي واسع وانتقادات شديدة اللهجة حملتها أقلام أبرز كتاب الأعمدة في الصحف وكبار الأدباء في الدولة العبرية، فيما حمّل وزراء في «المنتدى الوزاري السباعي» وزير الدفاع إيهود باراك مسؤولية «الفشل والتقصير» في العملية العسكرية التي نفذها الكوماندوس، وطالبه بعضهم بالاستقالة. وعاد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو إلى تل أبيب أمس من كندا بعدما ألغى زيارته المقررة لواشنطن ولقاءه الرئيس الأميركي باراك أوباما. وقالت أوساطه إنه سيترأس اجتماعاً للمجلس الوزاري المصغر بمشاركة قادة المؤسسة الأمنية للاستماع إلى تفاصيل ما حدث وبحث تداعيات الجريمة أمنياً وسياسياً وانعكاساتها على مجمل علاقات إسرائيل مع دول العالم. وأعلن الجيش الإسرائيلي رسمياً ان تسعة من ركاب سفينة «مرمرة» قضوا في الهجوم فجر أول من أمس. وقامت السلطات الإسرائيلية بترحيل نحو 40 من ركاب السفن الخمس (وعددهم الإجمالي 679 شخصاً) وبزج 610 أشخاص من نحو 40 دولة في سجن بئر السبع والتحقيق معهم قبل ترحيلهم على متن ثلاث طائرات تركية وتقديم لوائح اتهام ضد عدد منهم بداعي الاعتداء على الجنود، فيما عولج في المستشفيات نحو 30 مصاباً. وتوعدت إسرائيل بملاحقة سفينة مساعدات أخرى قادمة من إرلندا هي سفينة «ريتشل كوري» التي قد تصل إلى غزة في غضون ساعات. وقال ضابط في البحرية الإسرائيلية إن رجاله «مستعدون» لملاحقة السفينة. وتوعد وزير الأمن الداخلي اسحاق أهارونوفيتش بمحاكمة الناشطين الذين تعرضوا للجنود بالهراوات والسكاكين والرصاص وبأيديهم. وقال إن «كل من رفع يده على جندي سيعاقب بأقصى ما يقضي به القانون». ورداً على الانتقادات للجيش لعدم تفضيل عملية عسكرية أخرى لا توقع خسائر في الأرواح، قال رئيس قسم العمليات في هيئة أركان الجيش العميد ايتسيك ترجمان أمام لجنة الخارجية والأمن البرلمانية أمس إن تعطيل محرك سفينة «مرمرة» لم يكن متاحاً «نظراً لحجمها الهائل وسرعتها وللوقت الطويل الذي يستغرقه سحبها، وأعني أياماً، ما من شأنه أن يتسبب في أزمة إنسانية لركاب السفينة... وجذب اهتمام إعلامي واسع». ووفقاً للتقرير الأولي الذي سلمه ضباط للجنة عما حصل، فإن فتح النيران على ركاب السفينة تم بعد 40 دقيقة من بدء عملية إنزال أفراد الكوماندوس بالحبال على ظهر السفينة وتعرضهم لعملية «فتك»، وأنه «لم يكن من بد سوى إطلاق النار على الركاب المنفلتين». وأضاف التقرير أن الركاب خطفوا مسدسيْن من جنديين تم العثور عليهما على جثث القتلى فارغين من الرصاص الذي أطلقوه على الجنود. وكان رئيس اللجنة النائب تساحي هنغبي قال في مستهلها إن «هناك تساؤلات كثيرة تتعلق بالجانب الاستخباراتي والعملياتي وتصرّ اللجنة على تلقي الردود عليها من خلال إجراء تحقيقات واستخلاص عبر». وفيما عمدت تصريحات وزراء ومسؤولين أمنيين حاليين وسابقين إلى «الإشادة بالأداء البطولي» لوحدة الكوماندوس التي نفذت الجريمة، وجهت الانتقادات إلى القيادة العسكرية وتحديداً إلى وزير الدفاع ورئيس الحكومة على عدم طرح خطة سلاح البحرية لاعتراض سفن الأسطول على الحكومة الأمنية المصغرة. ونقلت صحيفة «معاريف» عن وزراء «المنتدى الوزاري السباعي» الذي أعطى الأسبوع الماضي الضوء الأخضر لتنفيذ عملية الاعتراض قولهم إن باراك أقر العملية العسكرية بنفسه وطلب تصديق رئيس الحكومة عليها من دون إجراء نقاش منظم سواء في «المنتدى السباعي» أو في الحكومة الأمنية المصغرة، كما أنه لم يتم التصويت على قرار تنفيذ العملية. وأضافت أن الوزراء الذين طالبوا بالإطلاع على تفاصيل العملية والبدائل المطروحة أُبلِغوا أن نتانياهو وباراك حسما الأمر «ولا مجال لنقاش آخر». وتابعت «معاريف» أن وزراء بارزين يطالبون باراك باستخلاص العبر من فشل العملية وتقديم استقالته فوراً. ونقلت الصحيفة عنهم قولهم إن ما حصل «نجم عن تقصير عملياتي لوزير دفاع عديم المسؤولية غارق في نشوة القوة». وأضاف أحد الوزراء الكبار أن حصر القرار النهائي بتنفيذ الهجوم في يدي باراك بعد سفر نتانياهو إلى الخارج كان خطأ، «إذ لا يمكن أن نبقي بيد وزارة الدفاع صلاحية اتخاذ قرار ذي انعكاسات استراتيجية ودولية من الدرجة الأولى». ووجه النائب في حزب «العمل» الذي يتزعمه باراك الصحافي السابق دانيئل بن سيمون انتقادات شديدة اللهجة إلى زعيم حزبه «الذي لا يفقه سوى لغة القوة»، وقال إن باراك «يمثل عقيدة خمسينات القرن الماضي التي عملت وفق قوانين الغاب القاضية بأن تأكل أو يأكلوك... هذه العقيدة يجب أن تزول، لكن باراك مصر على أن يفعل كل شيء بالقوة». وقال عدد من وزراء «المنتدى السباعي» الذي يعتبر أرفع هيئة سياسية في إسرائيل إنهم علموا بالعملية العسكرية بعد وقوعها عبر وسائل الإعلام. وقال أحد الوزراء إن العسكريين الذين شاركوا في الجلسة طمأنوا الوزراء إلى أن عملية الاستيلاء على السفن «ستكون بسيطة وسهلة من دون مقاومة جدية». ولم يستبعد أحد الوزراء أن تقود الانتقادات للعملية العسكرية إلى «لجنة تحقيق في الورطة». وأبدت أوساط في المؤسسة الأمنية قلقها من تداعيات الهجوم السياسية والأمنية واحتمال تعرض أهداف إسرائيلية في أنحاء العالم إلى أعمال انتقامية. ونقلت الإذاعة العامة عن مصدر إسرائيلي رفيع المستوى قوله إن إسرائيل قلقة من تدهور العلاقات مع تركيا. وأضاف أن إسرائيل تخشى أن تضطر إلى التنازل عن تركيا «حليفاً استراتيجياً، والعلاقات التجارية والعسكرية بين البلدين لن تعود إلى ما كانت عليه». وتابع أن إسرائيل قلقة من احتمال إلغاء صفقات أمنية كبرى بين تل أبيب وأنقرة، بمئات ملايين الدولارات. إلى ذلك، أفادت «معاريف» أن اتهامات متبادلة تشهدها المؤسسة الأمنية بين عدد من أذرعها في شأن فشل العملية العسكرية ونتائجها الوخيمة. وأشارت إلى أنه خلافاً لتصريحات المسؤولين العسكريين لوسائل الإعلام المدافعة عن «نجاح» العملية العسكرية، فإنهم يتحدثون بلغة مغايرة في أحاديث مغلقة، إذ يتحدثون عن «خلل خطير» و «فشل» و «تورط». وأضافت أنه خلال مناقشة سبل اعتراض سفن «اسطول الحرية» قبل أسبوعين علت أصوات داخل المؤسسة العسكرية تعارض قيام إسرائيل باعتراض السفن عسكرياً، وطرحت بدائل كثيرة «لكن في نهاية الأمر تقرر القيام بعمل عسكري والانجرار وراء منظمي الإبحار وتحقيق ما ابتغته حماس». وأشارت، كما سائر الصحف الصادرة امس، إلى «الفشل الاستخباراتي والعملياتي والسياسي»، كما تحدثت الصحف في عناوينها الرئيسة عن «المصيدة» التي نصبها المشاركون في «أسطول الحرية» وعن «تورط إسرائيل». ولخصت «هآرتس» ما حصل في عنوان رئيس: «فشل عملية الجيش الإسرائيلي أنتج ورطة دولية». وفيما حرصت ردود الفعل على الإطراء على الجنود المشاركين في الهجوم و «البطولة» التي تحلوا بها، وجهت أسئلة وانتقادات إلى المستويين العسكري والسياسي. وحملت مقالات كتاب الأعمدة في أبرز الصحف انتقادات شديدة للقيادتين السياسية والعسكرية. وطالبت صحيفة «هآرتس» في افتتاحيتها بتشكيل «لجنة تحقيق رسمية» لأنه ليس من المنطقي أن لا يتحمل أحد مسؤولية الفشل الذريع للعملية، «ولا يمكن إقناع مواطني الدولة وأصدقائها في العالم أن إسرائيل تأسف لنتائج المواجهة وتستخلص العبر من دون إقامة لجنة تحقيق رسمية مستقلة تحقق في سيرورة اتخاذ القرار وتبت في هوية من يجب أن يتحمل مسؤولية هذه السياسة الخطيرة». وطالب أحد أبرز المعلقين في «يديعوت أحرنوت»، سيفر بلوتسكر وزير الدفاع بالاستقالة «لأنه من دون ذلك، فإن العالم سيرى أنه تجدر معاقبة إسرائيل كدولة وفرض عقاب جماعي عليها ككيان سياسي، وانه يجوز ضربها، اقتصادياً وتجارياً، وهذا خطر حقيقي داهم». أما الأديب المعروف ديفيد غروسمان فكتب في الصفحة الأولى في «هآرتس» يقول إن «أي شرح لن يبرر أو يغطي الجريمة التي نفذت هنا، وأية حجة لن تفسر الغباء الذي اعتمدته الحكومة والجيش... إسرائيل قتلت وجرحت مدنيين وفعلت ذلك كأنها عصابة من القراصنة خارج مياهها الإقليمية». وقال الأديب المعروف عاموس عوز إنه لا يفهم معنى لجوء إسرائيل إلى القوة العسكرية ضد سفينة لم تحمل على متنها السلاح. وأضاف في حديث إلى الإذاعة العسكرية: «إننا ندخل أنفسنا في حصار دولي أكثر خطراً علينا من الخطر الذي يشكله الحصار على غزة للفلسطينيين». وزاد ان الحصار على غزة سيمس بإسرائيل، «لقد تحولنا إلى جنوب أفريقيا إبان الفصل العنصري، دولة لا يريد العالم شراء منتجاتها ولا يريد زيارتها بل يريد طردها من منظمات دولية مهمة». وحذر من أن تصبح إسرائيل دولة «منبوذة وجرباء» لا يرغب أحد بعلاقة معها. وأضاف أنه لا يفهم «جدوى اعتراض سفينة قالت الاستخبارات الإسرائيلية إنها لا تحمل أسلحة ثقيلة... السلاح لغزة يصل عبر أنفاق سيناء، وليس بواسطة السفن، فلماذا لجأوا إلى القوة؟». ورأى أن «الدولة التي تستخدم القوة العسكرية ضد مدنيين لا بد من أن تخسر المعركة الأخلاقية... يجب فك الحصار عن غزة وهو عقاب جماعي لمليون ونصف مليون إنسان، عقاب لم يعد إلينا بعد أربع سنوات الجندي غلعاد شاليت». ودعا الحكومة إلى إعلان قبول حل الدولتين للشعبين في حدود عام 1967 مع التغييرات المستوجبة، وأن تكون عاصمتان في القدس.