عادت ساحة الإفتاء في السعودية إلى النشاط والسخونة من جديد بصنف جديد من «الفتاوى المغوية»، وتصدرت في الأشهر الأخيرة أعمدة الصحف وأصبحت «المانشيت» الأبرز بعد أن تكرر فيها عنصر المفاجأة والغرابة، فلم يعد الجمهور ليستوعب رأياً أو فتوى جديدة حتى يفاجأ بأختها. لم تعرف هذه الساحة الهدوء أبداً فبعد فتوى مدير فرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منطقة مكةالمكرمة الشيخ أحمد الغامدي حول جواز الاختلاط، انفرط عقد الفتاوى المثيرة سريعاً لينتج جدلاً ونقاشاً لم يتوقف. فتوى إرضاع المرأة للرجل الاجنبي التي خرج بها المستشار في الديوان الملكي الشيخ عبدالمحسن العبيكان كرأي مثير فاجأ الساحة العلمية والشعبية على حد سواء لم تعد مسألة شرعية تتطلب تمحيصاً وبحثاً معمقاً، بالقدر الذي صاحبها من إثارة وغرابة أشكلت على عقول الناس، وفي الوقت ذاته أجاز إمام المسجد الحرام الشيخ عادل الكلباني التمثيل والغناء من دون أن يغفل الغناء والرقصات الشعبية كالخبيتي والسامري والمزمار الحجازي. الإشكال الذي يقلق المشتغلين في دوائر الإفتاء وطلبة العلم الشرعي هي الفوضى التي تعاني منها الفتوى أخيراً، وما زاد هذا القلق هو أن أصحاب الفتاوى المثيرة إما أنهم ليسوا تحت مظلة هيئات الإفتاء الرسمية أو أنهم مكلفون بأعمال أخرى لا علاقة لها بالإفتاء، فالشيخ أحمد الغامدي الذي أفتى بجواز الاختلاط هو أحد القياديين في جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشيخ العبيكان هو مستشار في الديوان الملكي، والشيخ الكلباني هو إمام في الحرم المكي ومقرئ شهير، وكان الأولى في نظر الباحثين أن يتركوا مسألة الفتوى في القضايا المشكلة والمثيرة لأهل الاختصاص وأن يتفرغوا لمهامهم الوظيفية بعيداً عن صخب الفتوى وجدلها الذي لا ينتهي ببيانات الإيضاح أو الاعتذار أو التراجع. ومع تطور أقنية الاتصال انتقلت الفتوى من مرحلة الشفاهية إلى أن شغلت مساحات كبيرة على مواقع الإنترنت، وساعات بث طويلة على شاشات الفضائيات، بل وأكثر من ذلك فباعة الكلام من مشغلي شبكات الهاتف والجوال فطنوا أخيراً إلى أن ساحة الفتوى هي من خيارات الكسب الأكثر ربحاً وتجارةً وابتكروا نوافذ إلكترونية جديدة للفتوى، حتى أصبحت مسافة الوقت بين كبسة زر «فتوى» وبين الإجابة المبرمجة لا تتعدى مسافة الوقت بعد إعطائها إشارة ضوئية. أمام هذا المد الكاسح من برامج الإفتاء، أصبح الفضاء يتسع لكل صاحب لحية كثة يعرفه الناس على أنه «شيخ»، فيفصل ويقضي في كل مسائل الخلق وقضايا الأمة من دون حرج من الإيغال في تفاصيل لا تراعي القول المأثور لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه «حدّثوا الناس بما يعقلون، أتريدون أن يُكَذَّب الله ورسوله»، وهو ما أدى بالفتوى إلى الانفلات وانعدام الانضباط، كما يعتقد أحد الكتاب المعلقين على «حال الفتاوى». ومن جملة المهتمين بمسألة ضبط الفتوى التي أصبح الحديث عنها حاضراً في الآونة الأخيرة ومرفقاً في أجندة اجتماعات هيئات الإفتاء في العالم الإسلامي ظهر تقرير راصد تعامل مع مسألة الفتوى وتناولها في الفضائيات الإسلامية كما يتعامل «نظام ساهر» المروري مع قادة المركبات، أعدته أمانة موقع «الفقه الإسلامي» للربع الماضي من هذا العام، إذ بلغ إجمالي عدد الأسئلة لأحد برامج الإفتاء 4571 سؤال في 244 حلقة من البرنامج ذاته، سأل الذكور منها 2332 سؤالاً، فيما سألت الإناث، 2239 سؤالاً وتنوعت جنسيات السائلين لتشمل 17 دولة، تقدمتها السعودية، ثم مصر وقطر وليبيا والمغرب، وبعض الدول الأوربية كالنمسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا وفرنسا. ولاحظ التقرير على المفتين من خلال إجاباتهم افتقارهم إلى التوضيح الذي يحتاج إليه السائل، والاقتضاب في الفتوى بما في ذلك الافتقار إلى الدقة في الحكم على درجة الأحاديث، وغرابة الأسئلة، وهو ما يعني أن السائل هو المحرّض الأول على الفتوى الغريبة التي ما تلبث أن تنتشر لتصبح ملء الفضاء ومواقع الإنترنت، وحديث المجالس. وبعكس الذين يرون أن سكوت المؤسسة الدينية الرسمية أمام هذا النوع من الفتاوى هو ما أدى إلى انتشارها سواء كان في جانب التشدد أو التسامح، يرى الكاتب الدكتور زيد الفضيل أن سكوت مؤسسة الإفتاء إيجابي على هذا الصعيد. وقال: «أعتقد أن صمتهم إيجابي، بمعنى أنهم لو كانوا يرون أن ما يطرحه المتشددون صواب لقالوا قولهم، لكنهم في تصوري يعتقدون بأن هناك رأياً دينياً آخر يمكن أن يكون مقبولاً، وهو مخالف لما يطرحه المتشددون، ولذلك فقد آثروا الصمت، وصمتهم هنا يفسر لمصلحة المعتدل، وكما تعلم فإن هؤلاء هم أهل الدين والفتوى والموكل إليهم إخبار الناس عن بعض أوجه الفهم الرباني لهذا الدين، فعندما يصمتون في كثير من القضايا الخلافية يصب هذا في خدمة المناقشين لهذه القضايا، لو كانوا يعتقدون جزماً بأن هذه القضايا الخلافية هي على رأي هذه الفئة لوجب عليهم أن يقولوا ذلك ولعدنا إلى الإشكال الذي كنا فيه فيما مضى، وهو الإشكال الذي أطَّر الناس على رأي واحد في مسائل خلافية متنوعة طوال الفترة الماضية».