هذه ليست المرة الأولى التي يتحول فيها كتاب «أليس في بلاد العجائب» للويس كارول الى فيلم سينمائي. ما دفعني لأن أتوقف تشكيلياً عند هذا الفيلم ليس شيوعه وحصده للجوائز، وإنما لأن من شاهده من الفنانين والنقاد طرح السؤال: ما هي الحدود اليوم بين اللوحة والفن السابع؟ في مثل هذه الحالة التشكيلية على الشاشة التي توحدت مع تاريخ اللوحة أكثر من السينما؟ علينا حتى نحدد وجوه هذا التداخل ما بعد الحداثي أن نراجع البرزخ المتوسط المتمثل في تجارب الفيديو التشكيلية. هي التي تطرح اليوم كبديل عن اللوحة والسطح التصويري لدرجة أن واسطتها غلبت على بعض المجموعات ومتاحف الفن المعاصر (مثل مركز بومبيدو). خصصت صالات عرض رحبة لعروضه الدائمة في أبرز المواقع بين نيويورك ولندن وباريس وبرلين وطوكيو وغيرها. ثم إن السياق الغرافيكي للفيلم مُستقى من منهج الرسوم المسلسلة أو المتحركة وفق برامج «سبرينة». وبالذات التي تنتمي منها إلى التداعي الحدسي أو الحلمي لتيار السوريالية، وعلى الأخص السوريالي العالمي المعروف «دادو»، كان كُلف بسبب شيخوخته العام الغائب بالعرض في جناح رحب خاص في «بينالي فينيسيا» كنوع من التكريم وتمثيل سوريالية أميركا اللاتينية كذلك فإن مناخ «الصورية السوريالية» المسيطر على السيناريو والسرد وطريقة إعادة هذه القصة الأسطورية الشائعة، وتجاوز تأويلها من قبل العديد من الأفلام (بخاصة الهوليودية)، كل هذا يجعل الشطح أللوني والتصويري متحالفاً مع الجانب الأسطوري الذي يرفع الحدود بين الواقع والحلم، يكفي (في قصة الفيلم) أن تسقط «أليس» في متاهة الحفرة الأرضية في الحديقة العامة وهي تتعقب الأرنب الأبيض الحكيم حتى تنقلنا إلى مناخ موشح بألوان الحلم والكابوس والهذيان «الفرويدي» «واليونغي» المنبثق من تاريخ الفن السوريالي. لعل أبلغ الأمثلة هو ماكياج شخصية مصمم القبعات المجنون، كذلك فإن مساحة اللون الأزرق تحتل الجزء الأرحب من وجه الملكة، أما أختها فقد دُبغت باللون الأبيض الحليبي من رأسها حتى أخمص قدميها، أما بقية الشخصيات والكائنات فحدث ولا حرج: تأنسنت الزهور وأستنطقت جمادات الغابة وتشخصنت كائناتها الهجينة، لعل أبلغها شخصية الحكيم أو الكاهن الأسطوري الذي تقمص الدودة البرية المتعددة الأيدي، وهو ينفث دخان النرجيلة طوال الوقت. «أليس» البطلة نفسها تعيش تحولاً دؤوباً بين القياس القزمي والعملاقي تمتطي أعجب المخلوقات وتسافر بقياسها المجهري على قبعة صديقها وتصارع قوى الشر مثل الطائر الهجين الذي يقع بين التنين والسيمورغ، عوالم تعقد لقاحاً شمولياً بين الثقافات وتوليفاً خاصة مع الفن التشكيلي. لا شك في أن التحول إلى التعبير بالفيديو، وشيوعه لدى التشكيليين على حساب صيغة «لوحة الحامل» والسطح التصويري، كان له الأثر الفعال في التقارب بين اللوحة والفن السابع، وحتى غلب هذا التعبير (ما بعد الحداثي) على عدد من مجموعات المتاحف وسواها، وكُرس له نجوم بعضهم من أصول عربية، مثل منى حاطوم وآمال عبدالنور وفيصل سمره وأنس الشيخ وعمار البيك... الخ... وحتى أن احد أبرز التظاهرات التشكيلية العالمية المعروف باسم «دوكيومنتا» (ألمانيا - كاسيل) سيطر على عروض دورته الأخيرة الفيديو، وانسحبت اللوحة والمنحوتة من شهادة المعاصرة. ثم أن مخرج الفيلم (الذي أصبح غنياً عن التعريف) وهو تيم بورتون لا يحتكر استثمار ذاكرة الفن التشكيلي في السياق البصري للشاشة، على رغم أنه الأول الذي وصل بهذه التوأمية حتى حدود التوحد. عرفنا قبله أنطونيوني، والذي يقال عن بعض أفلامه بأنها متحف للفنون، وكذلك كيروساوا الذي طبق في أفلامه منظور «الإستامب الياباني»، فالحصان أو الفارس عندما يبتعد لا يتراجع إلى الخلف وإنما إلى الأعلى، هو واحد من استعارات الفيلم المذكور، فقد أجبر المشاهدين على استخدام نظارات خاصة تحول الألوان إلى سلم من الأبعاد الفراغية العمودية والأفقية، وبالنتيجة فبالمقدار الذي يتفاخر فيه المخرج بعلو وتقدم تقنيته «السبرنيتيك» (بخاصة الفوتوشوب)، فإن الجنون او الشطح السوريالي يظل الحكم الجمالي، وهو الذي جعل من الفيلم حدثاً تشكيلياً وليس سينمائياً فقط.