تحتضن المملكة هذا الأسبوع مؤتمر التراث العمراني في الدول الإسلامية في دورته الأولى، ويحظى هذا المؤتمر برعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين لما له من دلالة على أهمية هذا التجمع الأول في مؤتمر يبدو انه نخبوي، ولكن الحقيقة أن رعاية المملكة العربية السعودية لهذا المؤتمر في دورته الأولى يعطي إشارة قوية أن المملكة لا تهتم فقط بالقضايا السياسية والاقتصادية، سواء المحلية أو العالمية، ولكنها تولي اهتماماً بقضايا التراث الوطني المتنوعة لأسباب عدة. إن رعاية المملكة لهذا التجمع بتنظيم من الهيئة العامة للسياحة والآثار وبعض الشركاء الرسميين وغير الرسميين يعطي دلالة واضحة على أن المملكة تعطي قضية التراث العمراني أهمية قصوى، وأنها ليست قضية ترف ومزايدة على الماضي بل إنها تعي أن العناية والاهتمام بالتراث العمراني في المملكة هو قضية وطنية لا تقل أهمية عن الموارد الثقافية والاقتصادية الأخرى متى ما لقيت العناية والاهتمام من الجميع من المؤسسات الرسمية ومن القطاع الخاص ومن المواطن. تشير الدراسات الرسمية إلى أن المملكة العربية السعودية من أغنى الدول في مواقع التراث العمراني المتنوعة التي تعطي دلالة على العمق الحضاري لهذه الأرض وما توالى عليها من حضارات إنسانية متنوعة تعطي المواقع التراثية والأثرية شواهد على تلك العوالم، وقد لا تكون هذه المواقع العمرانية ظاهرة للعيان ومهتم بها في الماضي، ولكن رعاية المملكة لمثل هذا المؤتمر يعطي دليلاً على أن قضية التراث العمراني والآثار هي من القضايا التي تأتي في أولوية اهتمام الدولة بجميع أجهزتها المعنية سواء الهيئة العامة للسياحة والآثار، أو وزارة الشؤون البلدية، أو وزارة الداخلية، أو الجامعات ومراكز البحث العلمي. إن الاهتمام بالتراث العمراني في المملكة قائم وجارٍ العمل به منذ فترة ليست بالقصيرة وتقوم به الأجهزة الرسمية، فنحن نشاهد الاهتمام بالقرى التراثية في مناطق المملكة التي كانت على وشك الاندثار والزوال، والآن نجدها أعيد ترميمها وتأهيلها، وقام الأهالي في بعض المناطق بهذا الدور بمساعدة وتوجيه من الهيئة العامة للسياحة والآثار والشركاء الآخرين بعد أن عملت وشجعت الهيئة العامة للسياحة والآثار الأهالي بأن تلك المباني من قرى قديمة وحصون وقلاع وأسواق قديمة قد تكون مصدر رزق لهم بعد إعادة تأهيلها والمحافظة عليها، كما في تجربة «رجال المع» في جنوب المملكة التي أصبحت قرية تراثية رائعة وجميلة، ليست فقط تعكس حياة الأجداد والماضي، بل إنها أصبحت تعطي صورة حية للأجيال الحاضرة عن ماضيهم ووصله بحاضرهم، إضافة إلى المنافع الاقتصادية التي بدأوا يجنونها من إعادة تأهيل قريتهم، هناك مواقع تراث عمراني بدأت الحياة تعود إليها في مناطق متعددة في «أشيقر والغاط والاحساء والعلا» وغيرها من المناطق، وهذا لا يعني أن مواقع التراث العمراني تعيش في عصرها الذهبي، إذ لا تزال بعض المواقع تتعرض للإزالة والهدم، ولكن هذا المؤتمر يعطي رسالة للجميع بأن التراث العمراني يحظى برعاية كريمة من اعلى سلطة في الدولة، ولا يخفى على الجميع أن مهرجان «الجنادرية» للتراث والثقافة ومنذ دورته الأولى وهو ينقل المواقع التراثية للعاصمة الرياض في جهد للتوعية والتعريف بالتراث العمراني في المملكة، أما الآن فقد انتقل الاهتمام والرعاية بالتراث العمراني ليس فقط للأجهزة الرسمية بل إلى المواطنين بجميع مستوياتهم لرعاية التراث العمراني في المملكة. يعكس الاهتمام بالتراث العمراني في أي مجتمع تقدم أو تخلف هذا المجتمع أو ذاك، فكثير منا يسافر للغرب ويدهش بروعة القصور والقلاع والحصون في مدن مثل فيينيا أو باريس أو لندن، ويجد أن تلك القصور والمواقع أثرية تستخدم كفنادق أو نزل ولكنها لا تزال تحتفظ بطابعها التاريخي، وعلى رغم ذلك نجد الملايين من السياح من يقصدونها وبالتالي تدر على اقتصاديات تلك الدول المداخيل والموارد المالية الضخمة، بل إننا نجد في العواصم الأوروبية الكثير من المباني الحكومية والجامعات، والكثير منا يتذكر الكلية التي درس فيها تعود للقرون الماضية إلا أنها مؤهلة بشكل عملي مع إبقائها على شكلها ورونقها القديم. إن التراث العمراني وبتضافر الجهود يمكن أن يكون مصدراً اقتصادياً حقيقياً، سواء لأهالي تلك المناطق أو للقطاع الخاص بشكل عام. إن التراث العمراني في المملكة كنز ثقافي وحضاري يجب الاعتزاز به عن طريق المحافظة عليه وتوعية الأجيال الناشئة بأهميته الاقتصادية والحضارية، وأنه يجب أن يكون من الوجوه المضيئة والمشرقة لتاريخ هذه البلاد، إن العناية والمحافظة على هذا المخزون الحضاري هما مسؤولية الجميع. [email protected]