وصفت وكالات الأنباء ما حصل في 27 شباط (فبراير) الفائت، في البرلمان الكوسوفي، بأنه «اليوم الأصعب» نظراً الى أن انتخابات الرئاسة تمت بين استخدام الغاز المسيل للدموع في البرلمان، وطرد بعض النواب بالقوة، واستخدام المولوتوف خارجه لتعطيل انتخاب هاشم ثاتشي رئيساً لكوسوفو خلفاً للرئيسة الحالية عاطفة يحيى آغا التي تنتهي ولايتها في مطلع نيسان (أبريل) المقبل. وقد أُجريت الانتخابات في أجواء متوترة للغاية، سواء بسبب إلقاء عبوات الغاز المسيل للدموع أو بسبب الضغوط على بعض أعضاء البرلمان، الذين اضطروا لتغيير تصويتهم مرات عدة وسط إغراءات وابتزازات. ففي الجولة الأولى، حصل هاشم ثاتشي على 50 صوتاً فقط، في حين أن المطلوب ثلثا الأصوات، بينما حصل في الجولة الثانية على 64 صوتاً، وحصد في الجولة الثالثة 71 صوتاً تتيح له الفوز على اعتبار أن المطلوب 60 + 1. وكان لافتاً أن ثاتشي الذي كان القضاء الصربي حكم عليه غيابياً عام 1997، بالسجن عشر سنين بتهمة «الإرهاب»، لم يفز هذه المرة سوى بفضل أصوات الصرب في البرلمان الكوسوفي. وعلى رغم هذا «الفوز»، إلا أن المعارضة أعربت فوراً عن نيّتها تقديم طعن الى المحكمة الدستورية العليا التي كانت قد أبطلت «فوز» رئيسين سابقين (فاتمير سيديو وبهجت سيديو)، ومدّدت ل «رئيس موقت»، ولذلك يصبح ثاتشي الرئيس الرابع الإشكالي في «تاريخ» كوسوفو الممتد منذ 2008 . ومع ذلك، يبقى السحر في سر العلاقة الخاصة مع إسرائيل والولاياتالمتحدة. الزوج المحب لإسرائيل مع انطلاقة حملة حلف «الأطلسي» ضد صربيا في ربيع 1999، لإجبار بلغراد على سحب قواتها من إقليم كوسوفو لإيقاف تهجير السكان الألبان الى الدول المجاورة، كان من جملة المهاجرين الى مقدونيا الشاب أستريد كوتشي الذي كان على وشك التخرّج في كلية طب الأسنان في جامعة بريشتينا. ومن مخيمات اللاجئين في مقدونيا، كان أستريد وأسرته من بين ال217 كوسوفياً الذين اختاروا الذهاب الى إسرائيل الى أن تنقضي المحنة. وقد أقام هناك في أحد الكيبوتسات و «وقع في حب إسرائيل» كما وصفته جريدة «جويش كرونيكال» في عددها الصادر في 29/7/1999، وذلك لمناسبة استعداده للعودة الى وطنه كوسوفو بعد دخول قوات «الأطلسي» وجلاء القوات الصربية عنه. وفي هذا اللقاء معه، قال كوتشي: «تجولت في البلاد من إيلات الى طبريا ومن حيفا الى القدس، ولم أكن أتوقع أن البلاد جميلة هكذا، وأن الناس لطفاء الى هذا الحد»، لذلك عبّر في الختام عن مشاعره بالقول: «أنا حزين، أنا سأشتاق الى إسرائيل». وبعد عودته الى كوسوفو، تعرّف لاحقاً الى الضابطة في قوة الشرطة الكوسوفية الجديدة عاطفة يحيى آغا، التي كانت قد عادت لتوّها من دورة دراسية في الولاياتالمتحدة، واقترن بها، وهي التي أصبحت فجأة في نيسان 2011، الرئيسة الرابعة لكوسوفو بعد أن ألغت المحكمة الدستورية العليا صحة فوز رئيسين متعاقبين (فاتمير سيديو وبهجت باتسولي) خلال خمسة شهور في نهاية 2010 وبداية 2011. وبسبب ذلك، برزت أزمة سياسية مستعصية بين الأحزاب الثلاثة الرئيسية (الرابطة الديموقراطية برئاسة عيسى مصطفى، والحزب الديموقراطي برئاسة هاشم ثاتشي، والتحالف لأجل مستقبل كوسوفو برئاسة راموش خيرالدين)، ولم تحل إلا بتدخل السفير الأميركي في بريشتينا كريستوفر دل، الذي كان يلقَّب ب «الحاكم بأمره». وقد أقنع السفير رؤساء الأحزاب بالتوافق على اختيار رئيس موقت لمدة عام، وإجراء إصلاح دستوري يتيح انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب. ولما وافق رؤساء الأحزاب على ذلك بقي الاتفاق على الرئيس الموقت، وهنا قال السفير أنه يحمل اسم الرئيس المرشح في المغلف الذي وضعه على الطاولة، وأنه يفترض ثقتهم به قبل فتح المغلف. ولمّا وافق رؤساء الأحزاب وفتح المغلف، دُهش الجميع عندما قرأ السفير اسم المرشح: العقيد عاطفة يحيى آغا، نائبة رئيس قوة الشرطة الكوسوفية. ونظراً الى الحرج، فقد وافقوا على ذلك على اعتبار أنها «رئيس موقت» لمدة عام فقط. لكن مع عرقلة الإصلاح الدستوري المتّفق عليه، نُصحت الرئيسة يحيى آغا قبل انتهاء السنة، بالتوجّه الى المحكمة الدستورية للاستفسار عن فترتها الدستورية، فحظيت فوراً بالرد بأن الفترة الدستورية للرئيس هي خمس سنوات، لذلك بقيت حتى الآن ولم يتم الإصلاح الدستوري المأمول لأنه لا يناسب الطامح الجديد الى الرئاسة هاشم ثاتشي. ولم يكن ذلك مستغرباً، لأن رئيس المحكمة الدستورية آنذاك أنور حساني، كان يدين بالولاء لثاتشي، وهو ما يفسّر عدم رغبة يحيى آغا في التدخل لحلّ الأزمة السياسية التي شلّت المؤسسات الكوسوفية حوالى ستة شهور في 2014، لكي لا تصطدم مع هاشم ثاتشي الذي أصبح يسيطر على مفاصل الدولة. سرّ الزيارة السرّية لإسرائيل بعد سنوات «النضال» في الخلايا الماركسية - اللينينية (الخوجوية) خلال دراسته في قسم التاريخ في جامعة بريشتينا 1986 - 1990، وانضمامه الى «الحركة الشعبية الكوسوفية» ذات المرجعية الماركسية -اللينينية في سويسرا التي لجأ إليها، دخل هاشم ثاتشي في علاقة مبكرة مع الأجهزة الأميركية بعد تشكيل «جيش تحرير كوسوفو»، بخاصة بعد أن أصبح الممثل السياسي له في 1998، حيث بدأت التحضيرات للتدخل العسكري ضد صربيا. وبعد دخول قوات حلف الأطلسي الى كوسوفو خلال حزيران (يونيو) 1999، أسّس «الحزب الديموقراطي» وبقي رئيساً له حتى الآن. وقد اعتمد الحزب في نموّه خلال السنوات التالية، على شبكة الأمن الخاصة بالحزب التي رأسها قدري فيصلي، والتي عملت على التغلغل في مؤسسات الدولة والتحالف مع الأغنياء الجدد الذين استفادوا من ظروف حرب 1999 وبعدها (الخصخصة الخ)، ليوسع بذلك القاعدة الانتخابية للحزب، التي نجحت في تأمين الفوز لحزبه للمرة الأولى في خريف 2007. وقد بنى ثاتشي صعوده الجديد بالإعداد لإعلان استقلال كوسوفو عن صربيا من طرف واحد منذ نهاية 2007 وبداية 2008، وهو ما أعلنه في البرلمان صبيحة 17 شباط 2008. لكن بقي هنا لغز الزيارة السرية التي قام بها ثاتشي الى إسرائيل عشية إعلان الاستقلال، التي لم يصاحبه فيها سوى قدري فيصلي المذكور (رئيس البرلمان الحالي)، حيث أن هذه الزيارة بقيت سرية الى أن كشف عنها الكاتب الكوسوفي المعروف فيتون سوري، في كتابه «أرجل الثعبان» الذي صدر 2014 (أنظر «الحياة» 10/8/2014). وقبل هذا الكتاب وبعده، كان من المعروف أن ثاتشي كان يعتمد على مستشارين إسرائيليين في الوقت الذي كان نائبه في الحزب وزير خارجيته أنور خوجا، نشيطاً ومعروفاً في المحيط العربي. ومع ذلك، بقي ثاتشي يراهن على واشنطن أولاً وأخيراً. لذلك فقد عبّر في كلمته الأولى بعد الإعلان عن فوزه، عن عزمه «على توطيد العلاقات مع الولاياتالمتحدة». ومن هنا، لم يكن مفاجئاً أن أول تهنئة لثاتشي جاءت من الولاياتالمتحدة على لسان السفير في بريشتينا بعد دقائق من إعلان فوزه. أما في ما يتعلق بأوروبا، فقد وعد ثاتشي ب «بناء دولة أوروبية»، وهو ما جعل ذلك مجالاً للتندّر لأن ثاتشي لم يستطع خلال ولايتيه الحكوميتين 2007 - 2014 إنجاز أي اقتراب حقيقي من الاتحاد الأوروبي بسبب الفساد الذي جعل من كوسوفو الأولى في أوروبا، بينما الآن ليست لديه صلاحيات كرئيس للجمهورية ليفعل ما كان يمكن أن يفعله عندما كان على رأس السلطة التنفيذية. ومن هنا، فقد كان الموقف الأوروبي، بالمقارنة مع الأميركي، باهتاً جداً واقتصر على بيان من مكتب مفوضة الشؤون الخارجية في الاتحاد فيديريكا موغيريني، يفيد بأن «برلمان كوسوفو انتخب هاشم ثاتشي رئيساً في جو متوتر وانقسامي» ، أي من دون أي حماس ومن دون أية تهنئة من أي رئيس أو مسؤول في دول الاتحاد الأوروبي على غير العادة في هذه المناسبات (كوها ديتوره 5/3/2016). وهكذا بعد مضي أسبوع من انتخابه، لم تأته سوى تهنئة من رئيس ألبانيا المجاورة بحكم القرابة، وتهنئة أخرى من رئيس جمهورية التوغو! والى أن تنظر المحكمة الدستورية في طعن المعارضة ب «فوز» ثاتشي برئاسة الجمهورية، الذي قدمته في آذار (مارس) الجاري، والذي يمكن في حالة قبوله أن تذهب البلاد الى انتخابات مبكرة، فقد بدأت تتكشف المساومات التي جرت عشية التصويت لشراء أصوات النواب. ومن ذلك ما كشفه النائب السلفي المستقل غزيم كلمندي، الذي صرّح بأن ثاتشي عرض عليه حقيقة وزارية أو سفارة في الخارج مقابل حضوره فقط في جلسة التصويت، لأن الدستور الكوسوفي ينصّ على حضور ثلثي النواب (80 من 120) خلال التصويت، لكن كلمندي رفض ذلك. ومن هنا، فقد بقي 27 شباط 2016 يوماً حزيناً ومقلقاً بالنسبة الى كثر في كوسوفو وخارجها، لأنّ «المشاهد التي ظهرت في البرلمان كانت مقلقة للغاية»، كما جاء في البيان الصادر عن مكتب موغيريني.