عشية الانتخابات البرلمانية في كوسوفو التي جرت في 8 حزيران (يونيو)، كان الحدث الأبرز نشر الصحيفة الكوسوفية الأولى «كوها ديتوره» تقريراً لاستخبارات حلف الناتو عن الطبقة السياسية الحاكمة في كوسوفو منذ استقلالها (الحزب الديموقراطي الكوسوفي برئاسة هاشم ثاتشي) ومدى ارتباطها بالمافيات التي تسيطر على تجارة المخدرات وتهريب النفط والبشر. وكان من الواضح أن تسريب «الناتو» التقرير وتوقيت النشر كان بهدف التأثير على الناخبين، وبالتحديد قطع الطريق على هاشم ثاتشي، لكي لا يفوز بولاية ثالثة بعد أن تمكّن حزبه في الولايتين السابقتين (2007-2014) من السيطرة بكل الوسائل على مفاصل الاقتصاد ومؤسسات الدولة الجديدة، وبالتالي على عمليات الخصخصة لمصلحة المافيات المتخفية تحت عباءة الحزب. والضربة الثانية التي وجهت الى هاشم ثاتشي وحزبه تمثلت في إصدار الناشر الكوسوفي المعروف فيتون سوروي كتابه «أرجل الثعبان»، الذي يحكي فيه سيرة هاشم ثاتشي وأهم رجالات «جيش تحرير كوسوفو» الذي أُسس بعد حرب 1999 ودخول قوات حلف «الناتو» الواجهة السياسية الجديدة (الحزب الديموقراطي الكوسوفي) ضمن العملية السياسية التي بدأت مع تأسيس الإدارة الدولية في كوسوفو، وانتهت بفوز هذا الحزب في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) 2007 وتشكيل ثاتشي الحكومة التي أعلنت الاستقلال عن صربيا في 17 شباط (فبراير) 2008. وكان سبق إصدار هذا الكتاب تجرؤ المؤلف على التشكيك بصدقية «جيش تحرير كوسوفو» وادّعاء قادته أنهم هم الذين «حرروا» كوسوفو، ولذلك يحق لهم أن يحكموا هذا البلد كما يريدون. وتصادف الإعلان عن هذا الكتاب مع افتتاح معرض الكتاب في بريشتينا أوائل حزيران. وتدافع الناس لشراء الطبعة الأولى التي نفدت خلال أيام المعرض ثم تبعتها ثلاث طبعات خلال الشهر الأول. ولا شك في أن نشر هذا الكتاب، ومن قبله تقرير استخبارات «الناتو»، كان له دوره في قطع الطريق على وصول ثاتشي إلى الحكومة للمرة الثالثة بعد أن كان استعد لذلك على كل المستويات، الداخلية والخارجية، فقد عقد ثاتشي تحالفاً انتخابياً مع «حزب العدالة» ذي التوجهات الإسلامية الذي وعد المسلمين (95% من السكان) بالسماح بالحجاب في المدارس الحكومية في حال فوزه، بالإضافة إلى تحالفه الأساسي مع مفتي كوسوفو الشيخ نعيم ترنافا الذي يعتبر نفسه من «المحاربين» في «جيش تحرير كوسوفو»، كما واستدعى علاقته الخاصة برئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان وسعى إلى دعوة عاهل الأردن الملك عبد الله الثاني عشية الانتخابات، ولكن الأمر انتهى بزيارة للممثل الشخصي للملك، الأمير غازي، الذي فرشت له السجادة الحمراء للدلالة على المكانة التي أصبحت لكوسوفو في عهد ثاتشي في العالمين العربي والإسلامي. ولكن كل هذا لم يفد ثاتشي وحزبه بشيء، إذ إنه لم يفز مع حليفه «حزب العدالة» سوى ب 37 مقعداً في البرلمان في حين تمكن التحالف المعارض له («الرابطة الديموقراطية» و «التحالف لأجل مستقبل كوسوفو» و «حركة تقرير المصير» و «المبادرة لأجل كوسوفو») من جمع 63 مقعداً من أصل المقاعد ال120 للبرلمان . وبالعودة إلى الكتاب، يلفت النظر العنوان «أرجل الثعبان»، فالاسم الحركي لهاشم ثاتشي كان «الثعبان»، ويشير المؤلف في الغلاف الداخلي إلى المثل الألباني «للثعبان أرجل ولكنها لا تظهر للعيان»، لكي يوحي بهدف الكتاب: الكشف عن الأرجل المخفية ل «الثعبان» التي ساعدته على التحرك والوصول إلى ما يريده. وهكذا يكشف عن خلفيات تأسيس «جيش تحرير كوسوفو» والصعود المفاجئ لثاتشي في 1999 وترؤسه الواجهة السياسية الجديدة (الحزب الديموقراطي الكوسوفي) وتشكل بنية استخبارية - مافوية خططت وعملت على السيطرة على مفاصل الاقتصاد والدولة الكوسوفية خلال الولاية الأولى والثانية لثاتشي (2007-2014). ويعطي المؤلف معلومات لم تنشر من قبل ولم يعرفها القراء حتى الآن عن ثاتشي وبعض قيادات «جيش التحرير» سابقاً و «الحزب الديموقراطي الكوسوفي» حالياً. ومن هذه المعلومات المفاجئة التي لم تعرف سابقاً، خصّص المؤلف خمس صفحات (120-124) للعلاقات بين هاشم ثاتشي وجماعته وبين إسرائيل، التي أصبحت مفهومة أكثر الآن خلال الحرب الإسرائيلية على غزة. ويكشف المؤلف في هذه الصفحات أنه حين كان يرأس فريق التفاوض الكوسوفي مع صربيا في فيينا خلال 2006 وانتهى الأمر في 2007 باقتراح الرئيس الفنلندي أهتيساري مشروعه حول «الاستقلال المشروط»، بدأ التشاور بين الفريق الكوسوفي حول الدول المؤثرة التي يمكن أن تساعد على تأمين الاعتراف الدولي باستقلال كوسوفو ليفاجأ الحاضرون بثاتشي يقترح أن يتم ذلك من خلال السفارة الإسرائيلية في واشنطن. واعتقد الحاضرون في تلك اللحظة أنها «مزحة» أو «غلطة»، ولكن ثاتشي أكد ذلك ثانية في نهاية الاجتماع مع اندهاش الحاضرين، فقد كان المطلوب اقتراح دولة أو دول لها تأثير في العالم العربي الإسلامي، ولذلك لم يكن من المفهوم كيف يمكن إسرائيل أن تضغط على دول عربية وإسلامية للاعتراف بها. ويكشف المؤلف بعد ذلك عن زيارة قام بها ثاتشي مع رئيس جهاز الاستخبارات في «جيش تحرير كوسوفو» قدري فيصلي لإسرائيل خلال 2007، أي عشية إعلان استقلال كوسوفو، حيث قابل ثاتشي بعض السياسيين، بينما انشغل فيصلي بلقاء مسؤولين في الموساد. ومع الكشف الآن عن هذه الزيارة للمرة الأولى، أصبحت بعض الأمور قابلة للفهم ، بخاصة بعد أن أصبح فيصلي الرجل الثاني في الحزب الحاكم (الحزب الديموقراطي الكوسوفي). وفي غضون ذلك، لفت الأنظار أن ثاتشي حرص على اتخاذ شاب إسرائيلي مستشاراً له حتى يرشده إلى عالم الموضة، بعد أن كان يكتفي أيام الكفاح المسلح بالسترة الفيتنامية، وكيفية التعامل مع الأحداث والتصريح عن ذلك بالشكل المناسب وفي الوقت المناسب. وربما تفيد هذه الخلفية في فهم موقف ثاتشي خلال حرب غزة، فقد بقي على رأس حكومة تصريف الأعمال إلى أن تتشكل حكومة جديدة، ومن هنا لم يكن بوسعه أن يعطي أي تصريح رسمي، في الوقت الذي كان هناك انقسام في الرأي العام حول الموقف من الحرب الإسرائيلية على غزة بين مؤيد ومعارض، ولذلك اكتفى ثاتشي بالتعبير عن إعجابه بإسرائيل على صفحته في مواقع التواصل الاجتماعي، مستذكراً زيارته إسرائيل في 2007 التي اعترف بها علانية للمرة الأولى. والأكيد أن صدور كتاب «أرجل الثعبان» جعل المزاج العام في كوسوفو لا يتقبّل عودة ثاتشي ثانية للحكم بعد انكشاف كثير من ملفات الفساد للشخصيات المحيطة به والمتحالفة معه خلال 2007-2014، بل إن بعض هذه الشخصيات القريبة من ثاتشي اضطرت إلى الانسحاب من البرلمان بعد أن فازت في انتخابات حزيران 2014، مثل حازم سيلا القائد العام السابق لأركان «جيش تحرير كوسوفو»، فقد كشف هذا الكتاب كيف أن سيلا لجأ إلى سويسرا في 1994 كلاجئ سياسي من يوغوسلافيا الميلوشيفية، ثم عرض على السلطات وثائق تثبت أنه عاجز بنسبة 100% لكي يحصل على تقاعد صحي مجز، ولكن السلطات السويسرية اكتشفت لاحقاً أن هذا «العاجز» أصبح في 1999 رئيس أركان «جيش تحرير كوسوفو» ثم نائباً في البرلمان الكوسوفي، لترفع عليه دعوى لاسترداد نصف مليون فرنك سويسري. ومن ناحية أخرى كشف الكتاب كيف أن هذا «العاجز» تابع دراسة الماجستير والدكتوراه في الولاياتالمتحدة وأصبح اسمه د. حازم سيلا في سيرته الذاتية الموجودة في البرلمان الكوسوفي، ليتبيّن الآن مع الكتاب أن لا وجود لاسمه في جامعة لاينيز في ولاية نيو مكسيكو التي ادعى أنه حصل على الدكتوراه منها. ومن المتوقع مع تشكيل الحكومة الجديدة أن تنسحب شخصيات كوسوفية مهمة من المشهد ارتبط اسمها بهاشم ثاتشي خلال سنوات حكمه التي شابها الكثير من ملفات الفساد، ومنها وزير الخارجية أنور خوجا ومفتي كوسوفو الشيخ نعيم ترنافا وبعض القادة السابقين ل «جيش تحرير كوسوفو» الذين سيقدمون إلى محكمة جرائم الحرب الخاصة بكوسوفو التي سيكون مقرّها هولندا.