بعد أزمة سياسية ومؤسساتية استمرت أربعة شهور، بقيت كوسوفو خلالها من دون رئيس أصيل وبرلمان ورئيس حكومة، وبعد خلافات حادة بين الأحزاب الرئيسة للغالبية الألبانية، التأم البرلمان الكوسوفي الجديد في 22 شباط (فبراير) لانتخاب رئيس للدولة هو الثالث بعد إبراهيم روغوفا (توفي في كانون الثاني - يناير 2006) وفاتمير سيديو الذي استقال في تشرين الأول (أكتوبر) 2010 . وكانت الانتخابات البرلمانية الأخيرة جاءت بعد تصدع التآلف بين الحزبين الرئيسيين للغالبية الألبانية («الرابطة الديموقراطية الكوسوفية» التي أسسها إبراهيم روغوفا و «الحزب الديموقراطي الكوسوفي» بقيادة هاشم ثاتشي المنبثق من «جيش تحرير كوسوفو») وجرت أولاً في 12 كانون الأول (ديسمبر) 2010 ثم أعيدت في بعض الدوائر بسبب مخالفات شابتها خلال كانون الثاني 2011، وانتهت الى فوز «الحزب الديموقراطي الكوسوفي» ب 34 مقعداً (من أصل 120 للبرلمان الكوسوفي) بينما فازت «الرابطة الديموقراطية الكوسوفية» ب 27 مقعداً و «التحالف لأجل مستقبل كوسوفو» (المنشق عن «الحزب الديموقراطي الكوسوفي») ب 12 مقعداً، وحصل التحالف الذي يقوده «حزب كوسوفو الجديدة» برئاسة رجل الأعمال بهجت باتسولي على 8 مقاعد وهو ما حصلت علية «القائمة الصربية المتحدة» التي يرأسها سلوبودان بتروفيتش. وتأجل التئام البرلمان الكوسوفي الجديد، الذي كان عليه أن ينتخب في الجلسة الأولى رئيس الدولة ويمنح الثقة للحكومة الجديدة، بسبب المفاوضات بين الأحزاب الرئيسية للغالبية الألبانية. فمن ناحية الشكل كان هاشم ثاتشي رئيس حكومة تصريف الأعمال هو الذي يفترض أن يشكل تحالفاً حكومياً جديداً لنيل الثقة في البرلمان. ونظراً للظروف والتحديات التي تمر بها كوسوفو عشية المفاوضات المرتقبة مع بلغراد وبعد إقرار الجمعية البرلمانية للمجلس الأوروبي لبدء التحقيق في التقرير الذي أعدّه مقررها ديك مارتي حول تورط قيادات في «الحزب الديموقراطي الكوسوفي» في مافيات للاتجار بالبشر والأعضاء البشرية والمخدرات، فقد كان الحل الأفضل أن يقوم «الحزب الديموقراطي الكوسوفي» بتشكيل إئتلاف حكومي واسع، أو على الأقل أن يشكل حكومة قوية بالتحالف مع «الرابطة الديموقراطية الكوسوفية» أو مع «التحالف لأجل مستقبل كوسوفو». وبعد أن رفضت «الرابطة الديموقراطية الكوسوفية» مسبقاً أي تحالف ودعت الى إجراء انتخابات مبكرة بسبب المخالفات الكثيرة التي شابت انتخابات 12/12/2010، قدّم ثاتشي عرضاً مغرياً جداً ل «التحالف لأجل مستقبل كوسوفو» الذي يتمتع رئيسه راموش خير الدين بتقدير جيد سواء بفضل ماضيه في «جيش تحرير كوسوفو» أم رئاسته للحكومة الائتلافية خلال 2006. وقد تضمن هذا العرض المغري أن يحصل «التحالف لأجل كوسوفو» على منصب رئيس الدولة ومنصب نائب رئيس الحكومة بالإضافة الى سبعة وزراء وسبعة نواب وزراء وخمسة سفراء جدد. وعلى رغم ذلك فقد رفض خير الدين هذا العرض طالما أن ثاتشي يصر على أن يكون رئيساً للحكومة. ولأجل ذلك كان على ثاتشي أن يمضي نحو الخيار الأصعب للتحالف مع رجل الأعمال الكوسوفي بهجت باتسولي، الذي عاد الى كوسوفو في 2006 بعد اغتراب طويل وأسس حزب «التحالف لأجل كوسوفو الجديدة»، ومع القائمة الصربية في البرلمان التي يقودها سلوبودان بتروفيتش (أصبحت تضم 12 نائباً) لتشكيل الحكومة الجديدة. ولكن هذا الخيار كان صعباً بسبب شرط باتسولي أن يتولى هو منصب رئيس الدولة، فيما يمثل شخصية خلافية لدى الرأي العام الكوسوفي بسبب مصادر ثروته وصلاته السياسية مع الخارج، لأن بعض قيادات «الحزب الديموقراطي الكوسوفي» (يعقوب كراسنيشي وفاتمير ليماي الخ) كانت تعارض بشدة هذا الخيار وتهدد بعدم التصويت له في البرلمان. وفي هذه الأجواء المحتقنة داخل «الحزب الديموقراطي الكوسوفي» وبين أحزاب الغالبية الألبانية، انعقد البرلمان الكوسوفي في 22 شباط وسط توقعات متضاربة حول مصير رئاسة المؤسسات الثلاث الرئيسة (رئيس البرلمان ورئيس الدولة ورئيس الحكومة). فقد تم إرضاء يعقوب كراسنيشي سكرتير «الحزب الديموقراطي الكوسوفي» بانتخابه رئيساً للبرلمان بعد أن كان أنصاره يؤيدونه ليكون رئيساً للدولة، بينما اختلف الأمر حين بدأ انتخاب رئيس الدولة. وقاطعت الانتخاب الأحزاب الثلاثة الرئيسة للغالبية الألبانية («الرابطة الديموقراطية الكوسوفية» و «التحالف لأجل مستقبل كوسوفو» وحركة «تقرير المصير») التي تحوز على 53 مقعداً في البرلمان الكوسوفي (120 مقعداً)، ولذلك فقد حصل باتسولي في الجولة الأولى على 54 صوتاً فقط وفي الجولة الثانية على 58 صوتاً وهو أقل بكثير من ثلثي الأصوات، ولذا بقي الأمل معلقاً على الجولة الثالثة التي تتيح له بحسب الدستور الكوسوفي أن يفوز بمنصبه إذا حصل على نصف عدد الأصوات زائداً واحداً، أي على 61 صوتاً. ومع ذلك فقد كان التوتر سيد الموقف، ولذلك طلب «الحزب الديموقراطي الكوسوفي» استراحة على رغم أن ذلك يشكل مخالفة صريحة للدستور الكوسوفي، وهو ما وافق عليه رئيس البرلمان يعقوب كراسنيشي الذي يشغل أيضاً منصب سكرتير الحزب مع اعترافه بمخالفة ذلك للدستور. وبعد العودة من الاستراحة، التي هدد فيها ثاتشي بالاستقالة وحتى أنه ترك قاعة الاجتماع إذا لم يلتزم أعضاء الحزب التصويت لباتسولي، جرت الجولة الثالثة ليفوز فيها باتسولي ب 62 صوتاً بفعل انصياع أعضاء «الحزب الديموقراطي الكوسوفي» لتهديد ثاتشي وتدخل السفير الأميركي ريتشارد هيل وتصويت القائمة الصربية بالإجماع (12 صوتاً) لباتسولي. وفي صباح اليوم التالي كانت المفاجأة الأولى في انتظار باتسولي حين حققت الجريدة الكوسوفية الأولى «كوها ديتوره» سبقاً مهنياً تمثل في نجاح مراسليها في قاعة البرلمان بتصوير الرسائل التي كان يرسلها ويتلقاها شريك باتسولي ومستشاره أسعد بوشكار، والتي كشفت عن تدخل السفير هيل لمصلحة انتخاب باتسولي، ونشرها على صفحتها الأولى مما أحدث مفاجأة للجميع من موالاة ومعارضة. واعترض هيل في اليوم ذاته على نشر صور الرسائل النصية ورفع شكوى الى «مجلس الصحافة» للنشر حول انتهاك «كوها ديتوره» ل «الخصوصية»، إلا أن الجريدة ردت عليه بقوة على اعتبار أن الجلسة لم تكن في مطعم بل في برلمان يقرر مصير البلاد. أما المفاجأة الأخيرة التي كانت في انتظار باتسولي فهي إعلان الحزبين الرئيسين للمعارضة («الرابطة الديموقراطية الكوسوفية» و «التحالف لأجل مستقبل كوسوفو») باللجوء الى المحكمة الدستورية العليا لتبت في المخالفة الدستورية التي حصلت خلال الجلسة البرلمانية المخصصة لانتخاب رئيس الدولة، واعتراف رئيس البرلمان يعقوب كراسنيشي (الذي كان يأمل في الوصول الى منصب رئيس الدولة) في لقاء مع جريدة «اكسبرس» بأن ما حصل هو مخالفة صريحة للدستور. لكن انتخاب باتسولي شكّل مناسبة للصحافة الكوسوفية والأوروبية (وبخاصة السويسرية والروسية) لفتح ملفه وتداعيات انتخابه على مستقبل كوسوفو. وكان باتسولي المولود في 1951 قد غادر كوسوفو كالكثيرين من شبان كوسوفو للبحث عن عمل في أوروبا الغربية، ووصل في سن السابعة عشرة الى هامبورغ بجيوب فارغة ونام ليلته الأولى في محطة القطار ليبدأ عمله بعد ذلك في غسل الصحون. وعاد لاحقاً الى يوغسلافيا ليؤدي الخدمة العسكرية ويعود الى النمسا حيث اشتغل بائعاً في شركة للنسيج ومن هناك ذهب الى روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ليبدأ صعوده السريع. ففي روسيا بدأ العمل في ياقوتيا في شركة سويسرية الى أن أصبح مديراً لها ثم استقال ليؤسس شركته الخاصة «مابتكس» ، وأقام هناك علاقة جيدة مع رئيس البلدية بافله برودون الذي أصبح في 1993 رئيس إدارة الأعمال للرئيس بوريس يلتسن. كانت تلك «ليلة القدر» لباتسولي إذ أعطيت لشركته أعمال بعشرات الملايين من الدولارات لترميم الكرملين، وهو ما أدى الى فتح تحقيقات بعد تولي بوتين الحكم في روسيا بتهم تقديم رشاوى لعلية القوم. واعترف باتسولي لاحقاً بتقديم «مساعدات» لعائلة يلتسين بحكم الصلات الشخصية. وفتشت السلطات الروسية مقر شركته في 1999، وحققت معه في سويسرا المدعية العامية كارلا دل بونتي، ولكن التحقيقات توقفت بعد ذلك ل «نقص الأدلة». وفي المقابل سعى باتسولي في روسيا الى تبني مشروعات خيرية للرد على ما تنشره الصحف عنه، ومن ذلك ترميم مستشفى «بوغونفسك» الذي دمرته هجمات الشيشان في 1995. وقد عاد باتسولي من سويسرا الى كوسوفو في 2006 ليؤسس حزباً سياسياً (التحالف لأجل كوسوفو جديدة) لخوض الانتخابات البرلمانية في 2007، وساعدته ثروته على تخطي حاجز ال 5 في المئة. ومع التئام البرلمان الجديد هذا الشهر قدم باتسولي عرضاً لثروته التي وصلت الى حوالى 400 مليون دولار وهو مبلغ خيالي بالنسبة لكوسوفو، إذ أن الثاني في البرلمان الكوسوفي من حيث الثروة كان رامز كلمندي مع حوالى مئة مليون دولار والثالث هاشم ديشيشكو مع 15 مليون دولار، على أن تسعة نواب آخرين تتراوح ثروتهم بين مليون ونصف المليون الى خمسة ملايين دولار.