يقدم الدكتور محمد يوسف موسى في كتابه «الإسلام وحاجة الإنسانية إليه» تعريفاً للدين، من النواحي الاجتماعية والنفسية والفكرية، فيقول: «شغلت مسألة الدين وتعريفه العلماء في قديم الزمن وحديثه. فقد يراد منه النظام الاجتماعي الذي تأخذ به أنفسها طائفة من الناس، يجمع بينها القيام بضروب خاصة من الشعائر والأعمال المطردة، الدائمة، والاعتقاد بقوة روحية مطلقة أعلى من البشر جميعاً، وهذه القوة إن كانت متوحدة تسمى حينئذ الله». ويعرّفه بعض الغربيين بأنه: مجموعة واجبات الإنسان نحو الله، وواجباته نحو الجماعة، وواجباته نحو نفسه. ويرى أحد العلماء الغربيين أن الدين هو: جملة العقائد والوصايا، التي يجب أن توجهنا في سلوكنا مع الله، ومع الناس، ومع أنفسنا. أما الشهرستاني فيرى في كتابه «المِلَل والنِّحَل» أن «الدين هو الطاعة والانقياد، وأنه قد يرد بمعنى الجزاء والحساب». والدين مع الاختلاف في تحديده وتعريفه، ما بين سماوي وأرضي، قديم قدم البشرية، فما من جماعة إنسانية كانت تعيش في تلك الأزمان السحيقة إلا كان لها دين، ومعبودات تتجه إليها. فالإنسان متدين بطبعه، وما من جماعة إنسانية إلا كان لها تفكيرها في تعليل ظواهر الكون وأحداثه، وفي مبدأ الإنسان، والمصير الذي ينتهي إليه. ويرى الفيلسوف الألماني جييزلر في كتابه «تاريخ الاعتقادات» أن «الدين مخلد مثل خلود الإحساس الذي ينتجه، ولكن علوم الدين - أي دين - هي مثل سائر العلوم الأخرى يجب أن تكون قابلة للرقي، على قدر الرقي العقلي، وذلك مثل العلاقة الموجودة دائماً بين الحقوق وعلم التشريع. فالحقوق لا تتغير، ولكن علم التشريع يجب أن يتغير، ويتهذب على الدوام». ويذهب الفيلسوف إرنست رينان في كتابه «تاريخ الأديان» إلى أن «من الممكن أن يضمحل ويتلاشى كل شيء نحبّه، وكل شيء نعدّه من ملذات الحياة ونعيمها. ومن الممكن أن تبطل حرية استعمال القوة العقلية والعلم والصناعة. ولكن يستحيل أن يمّحي التدين، أو يتلاشى، بل سيبقى أبد الآباد حجة ناطقة على بطلان المذهب المادي الذي يود أن يحصر الفكر الإنساني في المضايق الدنيئة للحياة الطينية». ويقول المفكر محمد فريد وجدي في كتابه «المدنية والإسلام»: «يلاحظ الناظر في الأديان السابقة على الإسلام أن الأثرة القومية ظاهرة في تعاليمها ظهوراً بيّناً، وكثير منها حرّم التعدي على الآخذين بها، وأحلّه لمن عداهم من سائر الأمم. من هنا حدث التضاغن والتغابن بين أهل الممالك المختلفة، وورث الناس هذه الأخلاق جيلاً بعد جيل، حتى ليكاد المرء يفضل أن يرى الحيوانات الكاسرة، ولا يرى وجه رجل يخالفه في معتقده. ولكن الإسلام لم يسلك هذه السُنّة، بل رمى إلى توحيد العالم كله في دائرة المعاملات الحيوية، تاركاً لكل أمة حريتها في اعتقاد ما تريده من العقائد، فقرر لمتبعيه من هذه الوجهة أصولاً، فقال لهم: إن اختلاف الأمم والنحل في الاعتقادات أمر يقتضيه نظام الكون، وأنه مراد لله تعالى، وأنه من المحال جمع الأمم على عقائد واحدة، فقال تعالى: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم». وفي كتابه «موسوعة التاريخ»، تحدث المؤرخ الإنكليزي واليس عن الحاجة إلى وضع كتاب مقدس عام، يؤكد روح الوحدة بين الأديان، فقال: «وهذه الحاجة الآن أصبحت أعظم مما كانت عليه من قبل. فالفروق بين اليهودية، والمسيحية، والإسلام، والهندوكية، والبوذية، والكونفوشية، والشنتوية ضئيلة جداً، وليست ذات أهمية، فكيف يختلف الآن أصحاب هذه الأديان، والاتفاق بينهم أكثر من مساحة الخلاف؟ فالحقيقة المهمة هي أن الأديان كلها تتضمن حقيقة مفردة، تعلن أُبوّة الله، وإخاء الإنسان، والمعجزة المقدسة في المحبة الإنسانية». وحدة النوع الإنساني أعظم درس يمكن أن نتعلمه من دراسة الأديان، هو وحدة النوع الإنساني - كما تعبر عنها فكرة الهندوك - التي تقول: «كل أرواح الأفراد إنما هي أجزاء من روح واحد كوني». وقد أعاد القديس بولس هذه الفكرة إذ قال: «كلنا أجزاء من واحد، وعندما يشكو واحد منا يشكو الجميع». واستعمل التلمود عبارة مختلفة - كما ورد في كتاب «عظماء قادة الأديان» للدكتور عبد الجليل شلبي - في ألفاظها، ولكنها تحمل المعنى نفسه، فهو يقول: «كما تملأ الروح الجسد، يملأ الله الكون، نفساً واحدة إلهية، هي نفس الناس جميعاً، ولهذا فإنك حين تؤذي شخصاً آخر، لا تؤذي نفسك فقط، ولكنك آذيت الله». ويقول عباس محمود العقاد: «إن فكرة الدين والوحدانية واحدة لدى البشر، ولكنها تحورت، وتغيرت بفعل العنصرية، والاستعلاء، واحتكار الحق، ومحاولة اكتساب المنفعة الخاصة على حساب الآخرين، لكن الجوهر واحد، والأرضية واحدة، والغرس فيه المشابه الكثيرة»! القانون الذهبي للعالم هذا التعبير المميز في الأديان الكبرى، يمدّنا بقانون عالمي ذي تعاطف متبادل، مثل الحقيقة الذهبية التي تعلن الوحدة بين الناس والله، وهي الأسس الأخلاقية لدرس حياة القادة الدينيين العظماء. وهي تقول: «ما تحب أن يعمله لك الناس، اعمله أنت للناس، وعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به». وها هي ذي عقيدة غاندي تتركز في الإخاء الإنساني، وكان ينصح مريده قائلاً له: «أعداؤك هم إخوانك الأغبياء، تواضع لهم، عندما يسيئون إليك، لا تطع عدوك - بإيذائه - عندما يحاول هو إيذاءك، لا يوجد عدو أبداً له قوة كافية أو وحشية كافية، يعلو بها على الحب، أو يستطيع بها إطفاء ثورة». ويتواضع غاندي، رافضاً إطلاق لقب «مهاتما» عليه، أو حتى «روح قديس»، من جانب أنصاره ومحبيه، فيقول: «إنهم يدعونني مهاتما، ولكنني رجل عادي ككل الرجال، لقد أخطأت كثيراً، وارتكبت مساوئ شتى». وسيظل شوق الإنسانية إلى الحرية والعدالة والمساواة (مبادئ الأديان) يحركها إلى الأبد طلباً للرقي والتقدم والتعاون والتسامح، فقد كان هذا هو همّها الأساس، منذ فجر نشوء عقلها ووعيها، حين قرر الإنسان الأول أن يجعل من الأرض مكاناً صالحاً لوجوده وعبادته، وأن الحياة تستحق أن تعاش، بجعلها أكثر سعادة وجمالاً وتسامحاً. ويعد الدين النشاط البشري الذي حاول أن يضفي على كل شيء معنى وقيمة. فالدين مملوء بالرموز والطقوس والمجاز والخيال والذوق. وقد توقع وضعيو القرن التاسع عشر تراجع دور الدين لمصلحة العلمانية التي ستحل محله، لكن الدين فاجأهم، ووسع دوره واهتماماته، لكي يعالج مشاكل الحياة، ويحقق رخاء الإنسانية وأمنها وأمانها، كما يقول الدكتور حيدر إبراهيم، في كتاب «لاهوت التحرير رؤية عربية إسلامية-مسيحية». ومن قبل، مدح كارل ماركس الدين، وأثره الملموس في الحياة، فقال: «إن الدين يعلمنا ضمن ما يعلمنا أن الفرد يبذل نفسه في سبيل إسعاد البشرية». وقال عبدالرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» عن الدين وما يثيره في النفوس من انطلاقة الحرية والتغيير: «إن الدين جوهر الحرية، والحرية روح الدين، لأن الدين لا يكون معيناً على الاستبداد، والحرية أن يكون الإنسان مُختاراً في قوله وفعله، لا يعترضه مانع وظالم». ولذلك، فقد اتفق مع أستاذه جمال الدين الأفغاني في هذه المبادئ الإنسانية العالية. لماذا اختلفت الأديان؟ يجيب القمص بولس باسيلي في كتابه «الأقباط وطنية وتاريخ»: «مما يستوقف القارئ، وهو يتصفح القرآن الكريم تلك الآية الهادفة التي تقول: («ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة»). إذاً، فاختلاف الشعوب إزاء الأديان لم يكن جزافاً، بل كان لهدف التنافس، وحسنة هي الغيرة في الحسنى». ويجيب من قبله الدكتور طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»: «لعل الاختلاف بين المسلمين والمسيحيين في الدين أن يكون أشبه بهذا الاختلاف الذي يكون بين الأنغام الموسيقية، فهو لا يفسد وحدة اللحن، وإنما يقوّيها ويزكيها ويمنحها بهجة وجمالاً». ويرى العلاّمة مصطفى عبدالرازق - شيخ الجامع الأزهر السابق - أن «الأديان جاءت لسعادة الناس، وللتوسعة عليهم في الحريات، والعدالة، والقيم، والأخلاق، والمحبة الإنسانية، على رغم الاختلاف اللغوي، والعرقي، والمذهبي، والديني. فالمحبة بين البشر هي الحياة، وبسواها يكون الهلاك، والخراب».