هل الحب هو الذي يقودنا ويحكم تصرفاتنا؟ ما الذي يُعطيه لنا الحب؟ وما هي مشكلته؟ لماذا يتحدث القساوسة وأهل الدين كثيراً عن الحب، ويعتبرونه أمراً صعباً؟ وهل حقاً «الحب أهم شيء في حياتنا، فحتى لو كانت أجسامنا ضعيفة علينا ألا نتخلى عنه»؟ التساؤلات والأفكار السابقة عن الحب وتعقيداته تأتي متناثرة في سياق الفيلم البولندي السويدي المشترك «ولايات الحب المتحدة» للمخرج توماس فاسيليفيسك الذي اختار أربع نساء متفاوتات الأعمار ليحكي معضلتهنّ وهوسهنّ بالحب وتذوقهنّ مرارته والحرمان منه. عبر هاته النساء نرى كيف أن للحب قدرة عجائبية على تدمير المرأة، على العكس مما تقول موعظة القسيس بأن: «الحب ليس معركة ضد أي إنسان، الحب يُقوّي الإنسان.» فهل كان إشكال هؤلاء النسوة مع الحب ذاته، أم بسبب اختيار الرجل الخطأ سواء كان انتهازياً أو جباناً، أو رجلاً عادياً لا يحرك ساكناً؟ أنثوية خالصة يبدو الفيلم وكأنه مؤلف من ثلاثة فصول عن أربع شخصيات رئيسية، لكل امرأة فصل، فيما تمتزج حكاية امرأتين معاً في الفصلين الثالث والأخير. اللافت أنه رغم أنثوية الموضوع الخالصة تمكن المخرج الذي كتب السيناريو بنفسه وبسلاسة وصدق أن يغوص في أحاسيس المرأة ويجعل الحكايات تنتقل من طرف لآخر وكأنه عندما تنتهي حكاية شخصية ما تسلم طرف الخيط للشخصية الجديدة التي سبق ولمحنا وجودها عرضاً في بعض المشاهد، كشخصية فرعية لتتحول في لحظة ما إلى رئيسية، وإن كانت إعادة تأمل السيناريو تكشف أن الأحداث جميعها تدور في أقل من أسبوع واحد وأن المخرج استخدم الفلاش باك بمهارة وخفة وحذق، ليُعيد حكي ما حدث للنساء الأربع في ذلك الأسبوع، وكيف تعاملن مع مأزق الحب وسط خيارات محدودة جداً وفي ظل مجتمع قمعي، لذلك استحق الفيلم عن جدارة جائزة الدب الفضي لأفضل سيناريو في البرليناله السادس والستين. تدور الأحداث في بولندا عام 1990 أي في أعقاب سقوط الحكم الشيوعي، في محاولة لإلقاء ضوء شاحب وعاجل عن الخلفية السياسية التي أثرت بدورها في الوضع الاجتماعي للناس هناك، وما تبع ذلك من رغبة في التحرر من أعباء وقيود كبلتهم نفسياً واقتصادياً لعدد من السنوات، لكن ومع ذلك فإن هذا التأطير التاريخي ما كان ليُؤثر سلباً لو اختفى من الفيلم، لأن العمل يحمل في داخله اللحظة الآنية والمستقبل وإمكانية تكراره في ظل ظروف قمعية مماثلة بأي مكان على وجه البسيطة. يبدأ الفيلم من لقطة للعشاء تضم مجموعة من الأصدقاء، والجيران من محيط واحد تقريباً والذين نرى أغلبهم فيما بعد في الكنيسة أو في طريقهم إليها. من بين الكلمات المتبادلة بينهم، نلحظ التوتر بين أغاتا وزوجها، يتأكد ذلك في أعقاب انفرادهما عندما يحاول الزوج أن يحتضنها لكنها ترفض وتخبره بأنها ستتركه بينما يحاول هو أن يمنعها. يتلي ذلك لقطات لهما في البانيو وحديث بارد جاف يؤكد التعاسة المرتسمة على ملامح الزوجة التي تخرج إلى الشرفة للتدخين وهي شبه عارية في طقس شديد البرودة وكأنها تنتحر. بعدها ينتقل المخرج عبر لقطتين واسعتين الى المكان الموحش حيث العمارات الرمادية القبيحة المتفرقة في مكان بارد كأنما يسكنه الموت، ومصدر الحياة الوحيد به كلب ينبح بانتظام. أجاتا متورطة في زواج غير سعيد، ولديها فتاة في سن المراهقة، لكن فكرة الانفصال تستحوذ عليها خصوصاً أنها تنفر من جسد زوجها ولا تطيق أن يلمسها. وهي في الوقت ذاته مولعة، بل ممسوسة بحب القسيس الشاب الوسيم المشغول بجمع التبرعات، وتطارده في صمت أثناء صلواته، وتتأمل كلماته، لكن عندما يتحدث عن الحب قائلاً: «افعل ما تريده نفسك، اتبع صوتك الداخلي... ولا تهتم بالآخرين...» ترد فجأة بصوت عال وكأنما من دون وعي «أنت مرعب...» ما يلفت الأنظار المستنكرة إليها خصوصاً زوجها. يُمكن اعتبار جملة «اتبع صوتك الداخلي...» التي قالها القس هي مفتاح التحول الفعلي في سلوك شخصيتين على الأقل؛ أغاتا أمينة مكتبة شرائط الفيديو، وإيزا مديرة المدرسة. فالأولى تتبع صوتها الداخلي وتطارد القس وتطلب منه أن ينظر إليها، ثم تذهب لتنتظره على مقاعد الكنيسة ليلاً في لقطة تصويرية بإضاءة تفصلها عن الخلفية وتشي بأنها ملكة متوجة على العرش، ثم نراها وهي تتلصص عليه أثناء استحمامه. فعل لن تربح منه شيئاً سوى هزيمة أخرى فتعود إلى زوجها باكية متوسلة إليه أن يستجيب لرغبتها المحمومة لينتزعها من ألمها وصراعها النفسي الذي لن يتوقف على ما يبدو حتى نهاية الفيلم على الأقل. يعود المخرج فلاش باك إلى داخل الكنيسة مرة أخرى، ليبدأ الفصل الخاص ب إيزا التي قررت أن تتبع صوتها الداخلي فتخرج لتنتظر حبيبها الطبيب الذي كان يدفن زوجته للتو. يلتقيان بعد غياب، يبدو أن علاقة حب كانت قد جمعت بينهما قبل ست سنوات، لكنها لم تكتمل من دون أن نعلم الأسباب. فالسيناريو لا يُفسر كل شيء، فيه نقاط ضبابية وظلال كثيرة، وفيه تفاصيل متناثرة يشوبها الغموض أحياناً، لكن ذلك لن يقلل من متعة المشاهدة التي اعتمد التصوير فيها على اللقطات البعيدة والمتوسطة للكاميرا، مع حركات قليلة جداً فقط عندما تتحرك الشخصيات أو تجري فتلاحقها الكاميرا. أما اللقطات القريبة فاقتصرت على التصوير من الخلف. كما يخيم على الفيلم طابع الغموض والأجواء المهجورة والتلصص، فالجميع يتصرف في صمت وتكتم ولا يعبر عن مكنون داخله الذي تكشفه فقط تعبيرات الوجه. العلاقات بين الناس باردة، حتى بين الأختين اللتين تدعيان السعادة بينما تغمرهما موجات التعاسة، وقد ساعد في تحقيق ذلك الإضاءة الكئيبة والرمادية، وتلك العمارات بتصميمها القبيح. يذهب الطبيب مع حبيبته، ثم يفر متسللاً من مخدعها ليلاً عائداً إلى ابنته المراهقة. تطارده إيزا، يتهرب كأنها كانت نزوة، وحين تُحكم الحصار من حوله يُقدم حججاً لا نسمعها، فتقول: «أدركت ذلك الآن فقط... ست سنوات وأنا لم أقف في طريقك». الانتقام الأعمى المرأة حين تُحب بصدق لا تستسلم، وحين تُخدع تسير في طريق الانتقام من دون أن يُوقفها شيء، مهما كان الضرر الواقع عليها. هذا ما تفعله إيزا التي تقيم علاقة عابرة مع شاب لتنتقم من نفسها وتُذل جسدها فيخبرها أنه كان أحد طلابها وها هو يثأر منها بعد أن تسببت في رسوبه. وتمادياً في الانتقام تدس في حقيبة ابنة الطبيب صورة تجمعها بوالدها، ورغم أنه يأتي إلى شقتها ويضربها حتى تنزف مهدداً بقتلها لو كررت فعلتها، لكنها لا تتورع عن اصطحاب ابنته فيولا والحديث معها ومحاولة إقناعها بأمر لا نسمعه إلى أن تتركها فيولا وتجري هاربة فتبتلعها مياه البحر الثلجية. بعد اللقطة السابقة يعود المخرج بالفلاش باك مرة أخرى لنرى فيولا في الفصل الدراسي مع مدرسة الشعر «ريناتا» تشرح قصيدة عن الحب. هنا ينطلق الفصل الثالث والأخير لتلك الأنشودة الحزينة حول امرأتين إحداهما «مارزينا» مدربة الرقص الشابة والثانية «ريناتا» الكهلة التي أُحيلت للتقاعد فتجد نفسها فجأة غارقة في الوحدة. من ثم تسعى للالتحاق بالفصل الدراسي عند «مارزينا» التي تسكن في مواجهتها – وهي في الوقت ذاته شقيقة إيزا – ما يفتح باب الاحتمالات على مصراعيه في شأن إلحاح الأولى في التقرب من المرأة الشابة، فحتى عندما تفشل بكل الطرق ومنها الرشوة أن تلتحق بالفصل الدراسي، تنتظر عودة مارزينا في المساء لتُمثل أنها سقطت على السلم وأصيبت ذراعها فتساعدها مدربة الرقص ويبدأ باب الحوار بينهما ومعه يُمنح المتلقي مزيداً من النتف والتفاصيل الشحيحة لكنها– إلى جانب تفاصيل قليلة في الفصلين السابقين - تكفي لرسم صورة لمأساة كل منهما. فمارزينا سبق ورأيناها مع أغاتا – في الفصل الأول - كصديقتين تتفرجان على مشهد إباحي. وتتحدثان عن مدى إمكانية نسخه واحتياج البعض اليه، قبل أن تسألها أغاتا عن انفصالها: «هل ندمتِ؟» فتجيب بتردد: «لا... أحياناً... ربما». طوال الفصلين الأول والثاني والثالث، لم يستخدم المخرج أي موسيقى كخلفية للأحداث، فقط في اللقطات التي كانت «مارزينا» تقوم فيها بتدريب النساء على «الأيروبكس» في حمام السباحة، أو تعليمهن الرقص على صوت الموسيقى. في جميع المشاهد كانت تظهر ممشوقة القد جميلة، مفعمة بالحيوية والألق والنشاط، وكأنها طائر حر طليق، وكأننا نراها ونغبطها بعيون المرأة الكهلة «ريناتا» المتشبثة بالحياة وزخرفها الى حد انها جعلت من شرفة منزلها حديقة للطيور الملونة التي تحلق هنا وهناك ومع ذلك ظلت الوحدة والحزن يسكنان قلبها وكأنها في سجن كبير. ونفهم أخيراً ان «مارزينا» كانت الملكة المتوجة ببطولة العدو عام 1985، لكنها مثل باقي البطلات كانت تحمل قلباً جريحاً هشاً كالزجاج المتكسر سرعان ما بدأ يتعرى بقوة صادمة مع زيارة مصور الفوتوغرافيا الذي تركها كالموتى، رغم قوة الشباب.