في شهر آذار (مارس) 1955، ألقى رئيس وزراء بريطانيا حينها ونستون تشرشل أحد أعظم خطبه الأخيرة أمام مجلس عموم حاشد وقلق. ودار موضوع النقاش الذي افتتحه حول حيازة بريطانيا أول قدرة ردع نووية إستراتيجية. وبعد أن لفت تشرشل إلى أن بريطانيا لا تحظى بأي وسيلة دفاع ضد الأسلحة النووية، مع العلم أن هذا الواقع لا يزال على حاله حتى اليوم، تساءل: «ما الذي يتوجب علينا فعله؟ ما هي الطريق التي ينبغي علينا اتباعها لإنقاذ حياتنا ومستقبل العالم؟ قد لا يهمّ هذا الموضوع كبار السن لأنهم سيرحلون قريباً. لكنني أرى ضرورة الالتفات إلى حيوية الشباب ونشاطهم وإلى الأولاد الصغار الذين يلهون بألعابهم، فماذا سيحل بهم إذا سئم الله من البشر؟» صدرت ارقام كثيرة في شأن حجم الدين الذي ترتب على الخزينة البريطانية بسبب سعي الحكومة السابقة الى إنقاذ الاقتصاد إثر الانهيار الكبير في النظام المصرفي الدولي. وأنا أظن أنّ حجم الدين يبلغ حوالى تريليون جنيه إسترليني وهو الأعلى في تاريخ بريطانيا. وقد تتطلب عملية إحكام السيطرة عليه بين عشر وعشرين سنة. ولبلوغ هذه الغاية، من غير المستبعد زيادة الضرائب وتخفيض الإنفاق الحكومي في الوقت نفسه . وبناءً على هذا الواقع، دار جدل بين الحكومة ومجلس العموم حول فكرة التخلي عن قدرة الردع النووية البريطانية، المتمثلة في نظام صواريخ «ترايدنت»، في السنوات القادمة. وفي إطار حملة الانتخابات العامة التي أجريت في بريطانيا عبّر الحزب الديموقراطي الليبرالي، الذي يحتل المرتبة الثالثة بين الأحزاب، عن تأييده تمديد مدة عمل الغواصات الأربع المزودة صواريخ «ترايدنت» البالستية، والبحث في الوقت ذاته عن بدائل محتملة مثل الصاروخ النووي المتوسط المدى الذي تُطلقه غواصة تكتيكية وصواريخ «كروز» التي تُطلق من البر أو من البحر. وأشار الحزب الديموقراطي الليبرالي إلى أنّ التخلي عن نظام «ترايدنت» من شأنه أن يساعد بريطانيا على توفير مبلغ مئة بليون جنيه إسترليني وهو رقم متفائل بعض الشيء. قام حزب المحافظين وحزب العمّال بمهاجمة الحزب الديموقراطي الليبرالي، وهو حزب يسار الوسط الذي قدّم زعيمه القدير نيك كليغ أداءً جيّداً خلال الحملة الانتخابية، بسبب السياسة التي اعتمدها إزاء نظام «ترايدنت». وفيما تملك الأحزاب الثلاثة وجهات نظر مشتركة في ما بينها، لا شكّ في أن نيك كليغ شعر بسرور كبير لأنه رسم خطاً فاصلاً بين حزبه وبين الحزبين القديمين حول هذا الموضوع. وتعزّزت قضية الحزب الديموقراطي الليبرالي بعد اللقاء الذي جمع الرئيس باراك أوباما والرئيس الروسي ديمتري مدفيديف في مدينة براغ حيث وقعا على معاهدة «ستارت» الجديدة التي من شأنها تقليص ترسانتهما النووية بنسبة الثلث. وسبق لأوباما أن تحدّث عن رغبته في التوصل إلى عالم خالٍ من الأسلحة النووية، فرأى البعض أن ما حصل في براغ هو خطوة في هذا الاتجاه. وبموجب معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية عبّرت كلّ من الولاياتالمتحدة وروسيا والصين وفرنسا والمملكة المتحدة عن «حسن نيتها» من خلال قطع وعد يقضي بالعمل على نزع السلاح. وسُرّ الحزب الديموقراطي الليبرالي ببروز مجموعة من الجنرالات بقيادة قائدين سابقين لهيئة الدفاع هما اللورد برامال والجنرال اللورد غوثري خلال الحملة الانتخابية. وأعلنت هذه المجموعة أنّ الحكومة المقبلة قد تعرّض القوات الموجودة على الخط الأمامي والمحادثات العامة المتعلقة بنزع السلاح للخطر إلا في حال عملت على إيجاد سبل مختلفة لاستبدال الغواصات الأربع المزودة صواريخ «ترايدنت» البالستية. وبينما اعتبر بعض النقاد أن هؤلاء الجنرالات مهتمون برفع نفقات الجيش البريطاني لا سيما نفقات العشرة آلاف جندي المتواجدين في أفغانستان، ساهمت مداخلة الجنرالات في رفع سقف النقاش حول نظام «ترايدنت». واستمر الحزبان الأساسيان في مهاجمة الحزب الديموقراطي الليبرالي، غير أن اتهامهما إياه بأنه يعرّض أمن بريطانيا للخطر لم يعد له أساس من الصحة. وحذّر الجنرالات من أنّ استبعاد نظام «ترايدنت» من المراجعة الدفاعية الاستراتيجية التي تنوي كل الأحزاب إجراءها بعد الانتخابات قد يكون «مثيراً للقلق»، واعتبروا أن الحكومة قد ترتكب «خطأً استراتيجياً فادحاً» في حال تفادت النقاش في مسألة أساسية أو غضت الطرف عن البحث في البدائل. كما أعربوا عن اقتناعهم بأنّ النقاش أحرز تقدماً وبوجود «إجماع متزايد حول أنّ التقليص السريع في القدرات النووية هو السبيل الوحيد لتحقيق الأمن الدولي». ولا يحمل هذا التعبير الجليّ عن تفكير العسكريين أيّ توجه سياسي مع العلم أن الجنرالات كتبوا رسالة مثيرة في صحيفة «التايمز» في 16 كانون الثاني (يناير) الماضي حملت عنوان «المملكة المتحدة لا تحتاج إلى قدرة ردع نووية». * سياسي بريطاني ونائب سابق عن حزب المحافظين