ألقى المؤرخ الفلسطيني الأصل رشيد الخالدي محاضرة في غزة حول السياسة الأميركية وقضية فلسطين، مركزاً طرحه على كثير من الأطروحات السياسية الأقرب الى الأكاديمية منها الى الناحية العملية. وفي السياق نفسه والموضوع نفسه، يسمع بين الفينة والأخرى طرح حول الوضع القائم في فلسطين، وحول بدائل ومقترحات لحل قضية فلسطين، والتي تجعل أميركا قطب الرحى في أي حل لهذه القضية. ولا يقف الأمر عند هذا، إذ يمتد الأمر بمن يطرح هذه الأطروحات والبدائل إلى تسويغ اللجوء إلى المؤسسات الدولية، خصوصاً مؤسسات الأممالمتحدة، والقانون الدولي، الذي يقر وجود المحتل، وكأن هذا المحتل قد أصبح في شريعة الغاب الدولية كياناً محترماً. والمشكلة فقط تنحصر معه في نزاع على بضعة كيلومترات هنا أو هناك. بهذه الخلفية المقننة انطلق الخالدي إلى القول بضرورة إدراك أهمية التأثيرات الداخلية في صنع القرار الأميركي وأهمية توجيه الخطاب الى الرأي العام داخل الولاياتالمتحدة، واعتبر أن المطلوب هو المبادرة إلى تجميع الجهود الفلسطينية بعد أن يتم إنهاء الانقسام بين طرفي السلطة ومن ثم التوجه إلى تشكيل لوبي ضاغط داخل الولاياتالمتحدة مهمته التغلغل داخل أوساط صانعي القرار الأميركي، والتأثير فيهم باتجاه مصالح الشعب الفلسطيني. واعتبر الخالدي أن هناك فرصة للمرة الأولى يمكن استثمارها، فهناك سجال داخل الإدارة الأميركية فجّره الجنرال بترايوس، بقوله إن سياسات إسرائيل تعرقل الاستقرار وتضر بالمصالح الأميركية في الشرق الأوسط والمنطقة وتعرض الجنود الأميركيين للخطر، داعياً إلى استغلال مثل هذه الاختلافات في التأثير في العلاقة بين الكيانين. والحقيقة أن التوجه الذي طرحه الخالدي لا يعد توجهاً جديداً، فبعض المفكرين والأكاديميين يطرحه ويدعو إليه، والذي يجب التوقف عنده ملياً في هذه الأطروحات هو العقلية الواقعية التي توقف حل قضية فلسطين على أميركا وترهن مستقبلها بها، مع ما يمثله هذا الأمر من تسليم وخضوع للإرادة الأميركية من دون التفكير في الانعتاق من تبعيتها، الأمر الذي يعد انتحاراً سياسياً، وخلعاًً لقضية فلسطين من جذورها الإسلامية بعدما خلعت من جذورها العربية التي انحصر دورها في إعطاء الغطاء تلو الآخر للسلطة من أجل التفريط بفلسطين عبر المفاوضات. فالدعوة الى إيجاد لوبي فلسطيني داخل الولاياتالمتحدة، يعمل على إقامة جذور التعاون بين المجتمع الفلسطيني والأميركي وإقامة صلات وثيقة مع مختلف الأوساط الأميركية، ومنها يهود أميركا، بحثاً عن التأثير في الرأي العام الأميركي، إنما هو ارتهان للمصالح الأميركية وخضوع لرغبات أميركا وسياساتها. والحقيقة أن الدوران في فكرة التأثير وإيجاد اللوبيات داخل الولاياتالمتحدة كثيراً ما يمثل أكذوبة أو يأخذ حجماً مضخماً بالنسبة الى واقع اللوبيات وقدرتها على التأثير، حيث يزعم المروجون لهذا الطرح أنه يمكن الضغط والتأثير في الإدارة الأميركية وتغيير سياساتها لا سيما الخارجية منها. فمثل هذا الزعم ينقلب أحياناً وربما كثيراً إلى ضغط معكوس يمارس من جانب الإدارة الأميركية على أصحاب هذه اللوبيات، فكثير من النخب السياسية في الولاياتالمتحدة مدعومة من أصحاب الشركات الرأسمالية الكبرى، ومن خلال المستشارين للجان الكونغرس أو من خلال الدعم المقدم لمصلحة الحملات الدعائية، انتخابية كانت أم غير ذلك. كما أن أصحاب هذه الدعوة، إنما يغفلون أمراً مهماً، وهو أن تأثير مثل هذه اللوبيات يبقى محدوداً عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية الأميركية وبمصالح أميركا الحيوية. وبالتالي فإن أي حركة من شأنها أن تؤثر كما قد يظن البعض في القرار الأميركي، إنما تخضع وترتهن لمصلحة الكثير من هذه المؤسسات، بل لمصلحة كثير من النخب التي تدعم إسرائيل، سواء في وجودها أم في كثير من مصالحها ضمن الرؤية الأميركية، التي تجعل هذا الكيان قاعدة متقدمة لها في قلب الشرق الأوسط. والأمر الغريب الذي لا يخطر ببال من يدعو إلى تكوين مثل هذه اللوبيات هو واقع ومدى قوة أي لوبي جديد أو جماعة ضغط تشكل في أميركا. فمثلاً، ماذا فعل اللوبي الصيني، ومن خلفه الصين بكل ثقلها الاقتصادي والسياسي المتنامي، لمصلحة قضية تهمها مثل تايوان، وهل دولة بحجم روسيا مثلاً كانت لتغفل عن مثل لوبيات كهذه لو كانت ترى في الأمر أي مصلحة لها؟ وهل دولة بحجم الهند أنجزت الكثير أو حتى القليل باستخدام هذه الفكرة؟ إن تعميم تجربة اللوبي اليهودي في أميركا على بقية اللوبيات الأخرى فيه إغفال لطبيعة العلاقة التي تربط أميركا بإسرائيل وفيه تجاوز للدور الذي تلعبه إسرائيل في المنطقة نيابة عن القوى الاستعمارية كونها خنجراً مسموماً وجد في قلب الأمة ليحول بينها وبين وحدتها من جديد. أن النظر إلى قضية ما كقضية فلسطين واستدعاء النموذج الإرلندي الذي يحضر في الذهن كلما جاء وعاد بخفيه مبعوث الإدارة الأميركية جورج ميتشيل، إنما يعكس حالة تبسيطية للأمور. أما استدعاء النموذج الجنوب أفريقي، وتجربة الفصل العنصري في بريتوريا، ومحاولة إسقاط واقع الاستيطان القائم هناك والجرائم التي حصلت وقياسها بما يحصل للفلسطينيين على يد الاحتلال، فيه نظرة قاصرة يتم إهمال دور المبدأ والايدولوجيا في التعامل مع القضية، بل وللأسف الشديد فإنها تتماهى مع النظرة الى قضية فلسطين نظرة إنسانية، بمعنى أن المشكلة تكمن في وجود كانتونات يعيش فيها الفلسطينيون تحت خط الفقر، ولا يحظون بسبل الحياة الكريمة ولا يملكون أسباب الرفاه الاقتصادي، ولا... ولا. إن مشكلة كثيرين من المفكرين ومؤسسات البحث، أنها تعمل في إطار الشرعيات الدولية والقانون الدولي، الذي وضعه الأقوياء، ولا يطبقونه إلا خدمة لمصالحهم، وكأن نهاية التاريخ عندهم قد حسمت لمصلحة الرأسمالية، والمنظومات التي انبثقت منها، ولمصلحة مؤسسات المجتمع الدولي إن صحت التسمية، من دون أن يكون لمثل كلامهم هذا كثير من الوزن على أرض الواقع.