في نظرة استرجاعية، سار الليزر على خطى معظم الاختراعات العلميّة، فوضعت نظريته وتأسست، ثم التقطها عقل عملي كي يدخل بها الى عالم التطبيق. وفي حال الليزر، وضع عبقري الفيزياء ألبرت أينشتاين الأساس النظري لليزر، في سياق بحوثه عن النسبيتين العامة والخاصة ونظرته إلى تركيب الذرّة. ونظر أينشتاين الى مفهوم الانبعاث بالحضّ Stimulated Emission، الذي يشير الى القدرة على استثارة الذرات وتحريضها كي تستحضّ على إصدار أشعة لها موجة محدّدة. واستثمر العالِم ثيودر مايمان هذه النظرية، فاستنبط الليزر في عام 1960. ويعني الليزر إصدار ضوء بواسطة حضّ الذرّات، عبر ضخّ طاقة كهرومغناطيسية إليها، بحيث تُنتج ضوءاً أحاديّ اللون، يتمتع بقوة كبيرة، ويسير باتجاه مُحدّد. التجربة البيروتية يستخدم الباحثون الليزر في مجالات متنوّعة، بعضها معروف تماماً، مثل صناعة الأقراص الرقمية المدمجة بأنواعها («سي دي» و «دي في دي» و «بلو راي») صناعة الإلكترونيات، علاج بعض أمراض العين، مداوة البشرة وغيرها. وكذلك يستخدم في مجالات أقل شهرة، ولكنها أكثر إثارة للدهشة. ومثلاً، استخدم الباحث اللبناني الدكتور خليل أبو صالح (أستاذ في الجامعة اللبنانية)، الليزر أولاً في إعداد شهادة الماجستير في جامعة «غرونوبل» الفرنسية. واستطاع أن يقيس سماكة سحب الدخان التي يخلّفها صاروخ الفضاء «آريان 5» عند انطلاقه وكثافتها، والمُحمّلة بحمض هايدروكلوريك. ثم ذهب عميقاً في بحوثه عن فيزياء السطوح. وتركّز بحثه في رسالة الدكتوراه حول معرفة سبب اختفاء رغوة الشمبانيا، بعد إزبادها. ربّما لم نتساءل يوماً عن السبب فيزيائياً لهذا المشهد، لكن أبو صالح استعمل الليزر كي يتمكن من مشاهدة عالم الفقاقيع ومعرفة سبب اختفائها. ومن خلال تحليل المعلومات التي ينقلها الليزر، اكتشف الباحث تركيب الطبقة الخارجية في فقاقيع تلك الرغوة. واستنبط معادلة رياضية تربط بين تركيب هذه الطبقة، وسرعة اختفاء الفقاقيع واستقرار الرغوة. إذ تتيح خصائص الليزر، بمعنى أنه ضوء يسير بموجة مُحددة الطول تسمح بالتحكّم في شدّة الضوء وطاقته، سبر أغوار عوالم صغيرة، مثل فقاقيع الشمبانيا، التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة أو كشفها بالضوء العادي. جعلت هذه النتائج شركة «توتال» للبترول تحاول الاستعانة بكفاءة أبو صالح في حلّ مشكلة فقاقيع الغاز التي تتولد في أنابيب نقل البترول. ولولا خلافه مع المشرف على أطروحة الدكتوراه، لحصل أبو صالح على براءة اخترع عن معادلته التي تمكّن من تحديد استقرار رغوة الشمبانيا بطريقة علمية رقميّة. ويوضح أنه في عام 2008، وبصفته باحثاً في «جامعة باريس ديكارت» الفرنسيّة، استخدم الليزر في علاج الأمراض السرطانيّة بواسطة جسيمات مغناطيسية فائقة الصغر (Magnetic nano particules - Quantum dots). إذ يستطيع الليزر أن يحدّد أمكنة وجود العلاج الذي تناوله المريض، ما يسمح بالتأكّد من وصول الدواء الى الورم الخبيث. وفي 2009، استخدم أبو صالح الليزر في بحوث هدفت لفهم ظاهرة استقرار الجزيئات المُمغنطة في السوائل المُملحة. وجاءت تلك البحوث في سياق عمله باحثاً في جامعة بيار وماري كوري. صيد البرق استخدم الدكتور حسام سلامة الليزر في بحوثه في رسالة الدكتوراه في الفيزياء في جامعة ليون الفرنسية. واستعمل الليزر في مناقلة الذرات بين مستويين مختلفين للطاقة. والمعنى المقصود هو ان الذرات «ترتفع» الى مستوى معين، في حركتها التي تشبه أمواج البحر، إذا ضخّت إليها كميات من الطاقة. ونظر أينشتاين الى إن بعض الذرات تنطلق من مستواها العادي الى مستوى مرتفع، مثل قمة الموجة التي ترتفع عن مستوى مياه البحر، لكن «قصفها» بشحنة كهرومغناطيسية يؤدي الى «نزولها» الى مستوى معيّن غير ذلك الذي انطلقت منه. ولأنها محمّلة بالطاقة، تشرع تلك الذرات في التخلّص من تلك الطاقة بواسطة بثها على شكل ضوء، تكون له موجة محددة تتوافق مع المستوى المعين الذي وصلت إليه تلك الذرات. والخلاصة، انه أثناء عملية صدور الليزر، تمر الذرات في ثلاثة مستويات، هي المستوى المستقر الذي ابتدأت منه، ثم المستوى العالي الذي وصلت إليه بعد ضخ الطاقة، ثم المستوى المحدد الذي تجذبها إليه الشحنة الكهرومغناطيسية فتعطي أشعة الليزر عنده. وتكمن براعة سلامة في انه استعمل أشعة الليزر كي يناقل الذرات بين تلك المستويات الثلاثة، ما يعني أنه تحكّم بالذرات ومستويات حركتها وطاقتها. ومن المستطاع استثمار هذا التحكّم كي يستعمل كطريقة لنقل المعلومات الإلكترونية. وتندرج بحوث سلامة في سياق جهود صنع الكومبيوتر الكمومي «كوانتوم كومبيوتر» Quantum Computer، الذي يستطيع إحداث ثورة في الكومبيوتر والشبكات الرقمية، لأنه يعمل بسرعة تفوق سرعة الحواسيب المعروفة راهناً، بأضعاف المرات. واستعان سلامة بالليزر لمعرفة مكوّنات الغيوم. إذ يساعد تسليط الليزر على غيمة، في الحصول على طيف هذه الغيمة وبالتالي معرفة مكوّناتها ومستوى التلوّث في الجوّ. ويبيّن سلامة أن الليزر يستعمل أيضاً لمعرفة طيف مادة الأوزون. والمعلوم ان تلك المادة تشكل طبقة في أعالي الغلاف الجوي، كي تقي الأرض من الموجات المضرة في أشعة الشمس. والمعلوم أيضاً ان ثقب الأوزون يشكّل أحد التحديات الثقيلة في مجال البيئة. ويستطيع الليزر أن يقدّم معلومات عن خصائص طبقة الأوزون ومدى قدرتها على امتصاص الموجات المُضرّة في أشعة الشمس. في الليالي العاصفة، لا يعرف المرء مسار البرق. ويستطيع الليزر أن «يصطاد» البرق. كيف؟ يشرح سلامة أن الليزر يخلق قناة من المكوّنات الإلكترونية الصغيرة حوله، ما يمكّنه من تحديد مجرى البرق و «تصيده»، بمعنى التشابك بين تلك القناة الإلكترونية ومسار الشحنة الكهربائية في البرق، ما يفقد البرق شيئاً من حريّته وعشوائيته. تكلّف هذه العمليّة ملايين الدولارات. ربما لا تعطي حاضراً أي فائدة للإنسانيّة، لكنها مهمة في عين الاكتشاف والبحث علمياً. يشغل البحث العلمي دولاً كثيرة. ويشير سلامة الى أن لبنان يفتقد الأسس القوية اللازمة لإنجاز مشاريع علميّة متطوّرة تحاكي مسار العلوم عالمياً. وعلى رغم ذلك، يأمل أبو صالح بأن يتابع بحوثه في بلد الأرز، خصوصاً بعد تجهيز مختبر علمي في كليّة العلوم في الجامعة اللبنانيّة بمعدّات متطوّرة وبأجهزة ليزر، ما يؤمل بأن يفتح للباحثين أفقاً لمتابعة مشاريعهم علمياً. وكذلك يشير الى ان انتاج العلم لا يعتمد على البحث حصرياً، بل يتطلّب أيضاً نشر النتائج في مجلات علميّة عالميّة.