الطائرة المنطلقة من بيروت تضم عدداً من اللبنانيين المسافرين إلى الشارقة، حيث ستتوقف لبرهة، وعدداً آخر من العمال النيباليين الذين سيكملون الرحلة نحو كاتماندو، وسينضم إلينا في مطار الشارقة عدد من العمال النيباليين في الإماراتالمتحدة المتجهين إلى بلادهم في عطلتهم السنوية. حين يختلط العمال في الطائرة الأخيرة – المتجهة من الشارقة إلى كاتماندو- لا يمكنك التمييز بين الآتي من بيروت أو من الشارقة، فجميعهم يرتدون الملابس الجديدة الرخيصة التي يشترونها من الأسواق الشعبية في البلدين، تلك التي تبديهم في نظر أهلهم كمهاجرين يجمعون المال في بلاد الاغتراب، وكلهم تبدو على سحناتهم علامات الإرهاق والتعب من الأعمال التي يؤدونها سواء في بيروت أو في الشارقة ودبي، وهي أعمال دونية تتراوح بين العمل في جمع النفايات والعمل في البيوت وأعمال البناء. والأعمال هذه لا تدر عليهم سوى مبالغ ضئيلة من المال مقارنة بأسعار العملات في بلداننا، ولكنها مبالغ أكثر من مقبولة في نيبال الرخيصة، حيث الحاجة إلى المال تتمحور على أساسيات بسيطة كشراء دراجة نارية صغيرة، وهي وسيلة النقل الأثيرة لدى النيباليين، أو بناء منزل صغير من الحجر وسقفه من الزنك أو الطين. لذا فإن عملاً لمدة سنتين أو ثلاث خارج البلاد، يمكنه أن يحقق للعامل النيبالي ثروة صغيرة تضمن له الحصول على حاجاته الرئيسة وتساعده في تأسيس عمل صغير كافتتاح دكان للمواد الغذائية، وهذه واحدة من المهن الأولى التي يؤديها العائدون من المغتربات. إذ قلما تجد صاحب أو صاحبة دكان لم يعمل في دولة عربية، خليجية على الأرجح، ويتقن بضع كلمات باللغة العربية. تأثُّر بالعولمة قد يبدو أن هجرة اليد العاملة النيبالية بكثافة تعني أن النيباليين يطمحون إلى تحقيق الثروة، وهذا صحيح وتحديداً بين المدينيين منهم الذين فتح السياح الكثر -والذين يزورون بلادهم بكثافة منذ أكثر من ثلاثين عاماً- عيونهم على نمط آخر من الحياة، أي ما يتعدى مجرد الشبع وارتداء ما يستر أو ما يدفع برداً وإيجاد مكان للنوم، إلى تأمين الحاجات التي بات كل البشر يملكونها من هاتف محمول ووسيلة نقل وملابس تواكب الموضة وتعليم وطبابة حقيقيين. وقد ترافق -أو ساهم- ظهور هذه الحاجات مع بدء تحوّل الحواضر من قرى وبلدات كبيرة إلى مدن بالمعنى العمراني والاجتماعي والاقتصادي. فكاتماندو قبل ثلاثين عاماً كانت عبارة عن ضواحٍ بلا مركز إذا افترضنا أن المعابد ليست مراكز بالمعنى المديني (اجتماعاً وعمراناً). فقد كان سكانها عبارة عن أقارب وأهالٍ يعيشون في تجمعات سكانية تشكّل بمجموعها المدينة، أي أنها مدينة مؤلفة من عدد من البلدات التي تخيّم عليها نظم الاجتماع القروي أو البلدي الذي حمله معهم النازحون إليها. لكن العاصمة النيبالية لن تكون بمنأى عن التقلبات التي حملتها ثورة الاتصالات وانفتاح العالم وقصر دور الحدود الجغرافية لصالح «القرية العالمية» كما اتفق على تسمية العالم بعد العولمة، فدخل التلفزيون والقنوات الفضائية الهندية أولاً، مجتمعاً نصف سكانه من القومية الهندية، فكانت الأفلام والمسلسلات دافعاً إلى التقليد أولاً، أو إلى الغيرة من الممثلين والممثلات الذين يعيشون في رغد المدن الهندية المزدهرة اقتصادياً، فيما كانت الطبقة الوسطى الهندية في طريقها إلى البروز والتكرّس في المجتمع الهندي. والتعليم هو سبيل إلى الارتقاء، وهذا ما عرفه النيباليون وساروا به. فباتت الهجرة قبلة المتعلمين الذين سيعودون أثرياء بالمعنى المحلي، وهذا ما سيدفع الجميع إلى طلب السفر والهجرة، ما حوّل النيباليين إلى شعب من المهاجرين كما هي حال اللبنانيين. وإذا كانت حشرية اللبنانيين تجاه ما خلف أفق البحر دفعتهم إلى ركوب البحر والتحوّل إلى بحارة معروفين في أرجاء المدن الشاطئية العالمية، فإن حشرية النيباليين تجاه ما يقع خلف الجبال التي تحيط ببلادهم، دفعهم إلى طلب ما خلف الجبال واكتشافه. وموقع النيبال في الوسط بين الصين والهند وعلى مقربة من دول شرق آسيا، من اليابان إلى كوريا إلى تايلاند وماليزيا وسنغافورة وغيرها، وكذلك تنوّع الأعراق والإثنيات النيبالية من خلائط هذه الشعوب وتحديداً التيبيتية والهندية، فتحا أمامهم مساحة واسعة للتنقل والترحال والاغتراب والهجرة من أجل العمل والبحث عما يرفع قدراتهم المعيشية، وهذا ما حققوه على رغم الوقت القصير الذي انطلقوا فيه نحو العالم. نساء عاملات المرأة في نيبال أول من استفاد من الهجرة، سواء هاجرت أو لم تهاجر. فلو هاجرت وعملت في منازل المخدومين، فإنها تجمع مبلغاً من المال في سنة أكبر من الذي يجمعه النيبالي العامل في البناء مثلاً، فعيشها في منزل يوفّر عليها مصاريف كثيرة من الأكل إلى الملابس إلى السكن، ويسمح لها بالادخار. أما إذا لم تهاجر، فإنها تحصل على ما يرسله زوجها أو ابنها أو أخوها أو أختها من الخارج، وتساهم في إنشاء عمل حرفي أو تجاري تكون هي المسؤولة عنه في غياب الرجل، وهذا ما حقق مساواة اجتماعية بين الرجل والمرأة من دون كثير جهد ونضال نسائي، وأعطى المرأة سلطة داخل العائلة أي الحق في اتخاذ القرار والاعتراض على القرار أيضاً، وبطبيعة الحال فإن هذه المساواة الاجتماعية ستنعكس على الحياة السياسية، وستدخل المرأة إلى معترك الحياة السياسية في البلاد، داخل البرلمان وفي مجلس الوزراء وفي رئاسة الوزراء أيضاً. وبما أن الاقتصاد المحلي في النيبال يقوم على الضيافة أو استقبال السياح، فإن هذا أفضل ما تتقنه المرأة خصوصاً أن الرجل النيبالي من النوع الذي يتهّرب من التعامل مع الغرباء (من دون تعميم). فكانت المرأة ببسمتها وسلطتها وجمالها (النيباليات معروفات بجمالهن الذي هو خليط تزاوج أعراق كثيرة على رأسها التيبيتية والهندية) وحسن ضيافتها ومعرفتها بالطبخ والمساومة والمقايضة وغيرها من الأمور التي يسأل عنها السائح، حجر أساس في صرح السياحة النيبالية، وبالتالي صاحبة سلطة حقيقية في الحياة الاجتماعية والسياسية.