يتعامل العالم اليوم مع العرب والمسلمين وفق تصنيف جديد فيقسمنا وفق تنوعنا الطائفي إلى سنة وشيعة، وقد بدأت الدوائر السياسية والإعلامية تسوّق لهذا التصنيف الطائفي، الذي اشتعلت به المنطقة وأدى إلى صراعات تم إذكاؤها ومراقبتها من بعيد. وهذه المنطقة العربية الإسلامية، منذ القرن الماضي، تختزل هويتها الجامعة بمسميات جيوسياسية ماكرة، ك «الشرق الأوسط» الذي بدأ استعماله عام 1902 من خلال ألفرد تيير ماهان، المؤرخ البحري الأميركي، ثم اعتبرته بريطانيا تقسيماً واقعياً في عهد تشرشل 1921، أو المسمى الآخر «الشرق الأوسط الجديد» الذي استعملته وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندليزا رايس وأطلقته في تل ابيب عام 2006، واليوم يحضر التقسيم الطائفي، تنظيراً وتنزيلاً، ليلهب المنطقة ويعيد تقسيمها الجغرافي بالدم والبارود. ولعلي أتماهى مع هذا التقسيم على رغم كرهي الشديد له وتحذيري الدائم منه، لكنه اصبح واقعاً مرّاً وغالب حديث المجالس وقالب حديد المتاريس في طرقات بعض المدن العربية. المؤسف أن هذا التقسيم ضرره على العالم السني أكبر، وتفريقه لهذا الكيان الضخم المؤثر لا يخفى منذ وضع إسفين الشقاق في عمقه، لينكفئ عالمنا الإسلامي في تدمير ذاته والقضاء على قوته وتقليص انتشاره بروحانية نضالية عالية، وهذا أمر ظاهر لا يخفى على متابع من السنة والشيعة، أما ورطة هذا التقسيم على العقل السني، فقد قصدتُ ابتداءً بالعقل السُني في هذا المقام الرأي العام الذي يتحدث عن أهل السنة، سواء كانوا مفكرين أو فقهاء أو سياسيين، فأولئك وغيرهم وقعوا في ورطة يمكن أن ألخص دلالاتها في الأفكار التالية: أولاً: حالة العالم السني بتعداده الضخم ومساحاته الشاسعة حالة يرثى لها، بدليل حجم التأثير في قضاياه الكبرى، كالقضايا الفلسطينية والأفغانية والصومالية والبورمية، واليوم تعلو على الساحة القضايا السورية والعراقية واليمنية والليبية وغيرها، فكلها غائبة عن التأثير الدولي السياسي والحقوقي على رغم عدالتها وشرعيتها، فمنذ قيام «التضامن الإسلامي» الذي قادته السعودية، ثم «منظمة المؤتمر الإسلامي» والتي استبدلت ب «التعاون الإسلامي»، وتأثير هذه المنظمة لا يتجاوز بعض البيانات والاجتماعات وتشكيل اللجان، بينما قرارات التأثير تصنعها دوائر مختلفة، وأظن بأن عالمنا الإسلامي اليوم؛ دولاً ومجتمعات، في أشد الحاجة لهذا الدور المحوري والدعم والدفع اللازمين لتتصدر المشهد السياسي والفكري والتنموي بكل قوة، كما لا ينبغي كفّ يد المؤسسات المجتمعية الأخرى عن العمل بسبب هفوة او مزاعم تحريضية، خصوصاً في هذه الأوقات الحرجة؛ بل دعمها وتمكينها كمظلات جامعة، هو أولى ما يجب أن يهتم به العقل السني، مثل «رابطة العالم الإسلامي» و «الندوة العالمية للشباب» و «المجامع الفقهية» و«بنك التنمية الإسلامي» وغيرها. ثانياً: مورس على عالمنا الإسلامي عدد من التهم التي لم توجّه لفصيل سياسي أو حزب متطرف أو شخصيات بعينها؛ بل كالت المؤسسات الإعلامية هذه التهم ضد الإسلام ذاته والسني على وجه الخصوص، بأنه دين إرهابي ومؤسساته الدينية والإغاثية هي الداعم الأول للعمليات الإرهابية. وتُطلق هذه التهم في شكل مثير وصارخ على دين ينتمي إليه أكثر من بليون ونصف البليون، ثم تأتي الأصوات العاقلة خافتة مترددة متأخرة لتفرق بين الإسلام والإرهاب وعدم التلازم بينهما، وأصبح المسلمون السنة من دون غيرهم مطالبين في كل حادث إرهابي بإظهار التسامح واللطف وأنهم لا يؤمنون بالعنف البتّة؛ بل تبرّأ بعضنا من الجهاد كله على رغم نصوص القرآن الدالة عليه، وتوقف بالتالي عدد من المؤسسات الدعوية والإغاثية عن برامجه في الغرب وبعض الشرق، ومع هذا الاستسلام لهذه التهم وتصديقها والتفاعل معها، نجد أن الديانات الأخرى لا تُعامل بذات المعاملة ولا تُربط بها التهم أو الجرائم الإرهابية، فالمسيحيون المتطرفون في أميركا وأوروبا يمارسون صوراً متعددة من الإرهاب المعنوي والمادي، وكذا يفعل البوذيون في بورما، والهندوس أو السيخ في بعض مناطق الهند، واليهود بفلسطين، ولم توصف دياناتهم بالإرهاب !؟، والغريب في الأمر أن الشيعة شركاء السنة في الدين الإسلامي أيضاً بعيدون عن الكثير من تلك الإدانات بالإرهاب؛ بل هم أقرب للتفاهم والقبول في الدوائر الفكرية والسياسية الغربية من السنة، على رغم كل ما قامت به عشرات الميليشيات الشيعية المتطرفة من أعمال قتل وتعذيب وحرق للسنة في العراق وسورية واليمن، وهذه القابلية لتوجيه التهم أوقعتنا في ورطة أمام العالم، وأصبحنا مدانين في الأصل مالم تُثبت براءتنا، ومع كل حدث إرهابي يقع في أي مكان من العالم تبحث كاميرات القنوات عن عربي أو مسلم سني لتلصق به هذه التهم، وهذا الواقع المُشكِل تراكم مع زمنٍ طويل من الصمت السني، وكان لابد من قرارات دولية سنية تدينه وتعاقب من يروج لذلك الزيف من خلال محاكمات قضائية ومطالبات حقوقية، لعلنا نصل إلى بعض ما وصل إليه اليهود في تمرير عقيدة تصديق الهولوكوست حتى أصبح من الخطر الجرأة على التشكيك فيها فضلاً عن تكذيبها. ولعلي أضرب بالمملكة العربية السعودية مثلاً في هذا السياق، فعندما أقدمت وزيرة خارجية السويد على انتقاد الأحكام القضائية المتعلقة بالمرأة السعودية في آذار (مارس) 2015 دانت السعودية هذا التصريح وأوقفت العمل بالاتفاقية العسكرية بين البلدين وتم سحب السفير، ما أدى إلى عاصفة سياسية وتراجع واعتذار على لسان ملك السويد، ولا يغيب عنا أيضاً الاهتمام العالمي ب «عاصفة الحزم» في اليمن التي قادها الملك سلمان بن عبدالعزيز موقفاً سياسات الغطرسة الإيرانية ومنذراً العالم بالدور السعودي المحوري بالمنطقة. ثالثاً: من الورطات التي قصدتها في المقال ووقع فيها أهل السنة، أنهم تخلوا عن بعض ثوابتهم وأصبحوا مخدرين لا يدافعون عن حقوقهم بسبب الخوف من التهم بالإرهاب او «الدعشنة»، حتى أصبح الترويج لهذه التهم مادة حاضرة في شاشات الإعلام الغربي ودوائر الاستخبارات، تجعل فرائص الكثير من النخب السنية ترتعد من أن يرد ذكرهم في أحد البرامج أو المقالات المعادية للسنة في العالم. وتعمق لدى فقهاء ومفكري السنة خطاب التسامح إلى درجة التنازل والتغاضي والقبول بأسوأ الخيارات استسلاماً لهذه الحال المسرحية المتقنة، وهذا ما يجعل الكثير يسأل: هل العالم يستهدف السنة بهذه العداوات الصحيحة أو المختلقة، أم أنها هواجس وعقدة المؤامرة التي تخيم على رؤيتنا للأحداث ؟، وللإجابة عن هذا السؤال نحتاج لبراهين مقنعة وليس وعظاً بارداً يزيد الحيرة في فهم تلك المواقف المتباينة. ومن يتابع الدراسات العلمية التي أخرجتها مراكز غربية وإسلامية حول ظاهرة «إسلام فوبيا» يعلم يقيناً حقيقة هذا الخوف المبالغ فيه من الإسلام والموظّف لمصالح سياسية ودينية في الغرب، كما أن الأحزاب المتطرفة التي ترفع شعارات معادية للمسلمين أضحت ذات انتشار وقبول كبيرين في أوساط المجتمعات الأوروبية بعدما كانت أقلية غير مؤثرة !، وبالتالي نصل إلى يقين أن هذا القلق المسيّس لدى الغربيين من العرب والسنّة يحتاج إلى ما يقابله من استراتيجية إعلامية وسياسية واقتصادية تواجه هذا المدّ الإعلامي حتى يحترم عقلانيته ويجابه أخطاءه بدل تضليل الرأي العام بصناعة العدو المتوهم وتحميله مهددات المستقبل. رابعاً: استحق العقل السني أن يقع في هذه الورطة، عندما تماهى مع دعاوى وجود العنف والتطرف في الإسلام نفسه، وليس كونه شأناً خاصاً لقلّة من المتطرفين الجهلة، ثم تغافل هذا العقل عن تأسيس فقه المدافعة بالتي هي أحسن وليس المسالمة الخائرة بالتي هي أسوأ. كما أن فشل مؤسسات أهل السنة المجتمعية ساهم في وجود فراغ حقيقي لا يتحرك فيه إلا أعداء السنة، وأظن النجاح الذي يحسب لأهل السنة اليوم قدرتهم الفائقة على التشظي لأي خلاف وتناسيهم أي كليات ومقاصد عليا تجمعهم، مع إغراق في تعاطي الجزئيات التي ينفق لأجلها المال والجهد الكثير من دون رغبة في فتح باب مراجعة الأولويات وتقييمها. خامساً: من ورطات العقل السني أيضاً، عدم قدرته على احتواء الفرق الإسلامية والطوائف التي تشترك معه في الإسلام، ففكرة التعايش الطبيعي ولدت متأخرة في الخطاب الفقهي السني، ثم بعد أحداث العراق وسورية واليمن تصاعدت المواجهة في شكل كبير مع الشيعة كطائفة من دون تمييز، بينما كان من الأولى الفصل بين الشيعة القتلة أتباع «الحرس الثوري الإيراني» وعامة الشيعة البعيدين عن السياسة والأقرب للعروبة وأصول الدين، فالسنة أولى بهم من حيث الانتماء الوطني والتوافق المقاصدي والإنساني، والجميع يعلم أن الجيل الأول من الصحابة كان يحتوي المخالف في الدين من أهل الكتاب ويسميهم أهل الذمة، بينما نجد بعضنا يراغم طبيعة الفقه ومرونته نحو حسم العقيدة وقطعياتها، وأصبح من أولويات الفقيه العقدي ان يبحث عن الفرق الثلاث والسبعين المارقة وينزلها على كل مخالف من دون فهم الحديث واعتبار مقاصد الدين في جمع الأمة ورحمتها، فضلاً عن أن هناك حاجة عامة في تجديد خطابنا الفكري والفقهي والسياسي وتطوير أدواته، وتقوية مؤسساته، مع إلجام العواطف من التمرد على الحكمة والعقلانية، ولا يستفزنا رسم كاريكاتوري ساقط على أن نخرج في تظاهرات حاشدة غاضبة، نتقاتل بيننا ونسقط ضحايا حماقاتنا من دون تغيير يذكر أو تعبير يؤثر. أهل السنة اليوم في أشد الحاجة إلى يقظة الحكمة في تدينهم، وانتباهة الحصيف لما يحاك ضدهم، بالإضافة إلى عدالة سيف الحق في سواعدهم، ولعل حالهم يتغيّر، وصدق الحق تعالى:» إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ» [الرعد:11]. * كاتب سعودي