من لا يريد للدول الأخرى أن تتدخل في بلده، عليه ان يلتزم بالقانون ويحترم حقوق الآخرين، مواطنين كانوا أم أجانب، ويمنع التعذيب والسجون السرية، فإن لم يفعل فإن عليه أن يتوقع تدخلاً من الدول الأخرى الملتزمة بالقوانين الدولية أو التي تتأثر مصالحها بنشاطات هذه الدولة أو تلك التي تعتبر مزعزِعة للاستقرار والأمن. العالم الأن سفينة مبحرة ولا يمكنها أن تتجاهل ما يحصل في أي جزء من أجزائها، مهما كان طرفياً، وكل الذين يريدون أن يتصرفوا خلافاً للقوانين والأعراف الدولية ويتوقعون من العالم أن يسكت، إنما هم بعيدون كل البعد عن الواقع ولا يفهمون ما جرى ويجري خلال السنوات العشرين المنصرمة التي تغير فيها كل شيء وأصبح العالم أكثر تكاملاً وتماسكاً، وقد جاء هذا التغير على حساب سلطات الدولة الوطنية. نحن العراقيين عانينا كثيراً من إهمال العالم للمشكلة العراقية وقد كنا نلوم البلدان العربية والدول العظمى لسكوتها على انتهاكات نظام صدام حسين الصارخة لحقوق الإنسان وإقدامه على عمليات القتل الجماعي على مرأى ومسمع من العالم أجمع. كنا نجوب العالم عارضين مظالمنا، وللأسف لم ينتبه إلينا أحد إلا بعد ربع قرن من المصائب والكوارث والمجازر التي راح ضحيتها ملايين العراقيين ومواطني الدول الأخرى ودُمرت فيها البنى الأساسية للدولة بالإضافة إلى الثقافة والبيئة. وعندما قررت الولاياتالمتحدة التدخل في العراق، لم يصدِّق كثيرون أن هذا المسعى الأميركي جاد في إسقاط النظام عسكرياً، لكن التدخل العسكري حصل وهو الذي أحدث التغيير «الديموقراطي» الذي جاء بحكومة المالكي الحالية التي تطالب الآن قوى المعارضة الفائزة في الانتخابات بعدم طرح قضيتها عالمياً باعتبارها «قضية داخلية» وأن العراق دولة ذات سيادة، وهذه المطالبة «تُخِلّ بالسيادة العراقية»! يجب التذكير بأن صدام حسين كان يقول كلاماً مماثلاً وأن على دول العالم ألا تتدخل في الشأن العراقي بل تتركه يعمل ما يشاء بأبناء شعبه، يقتلهم بالأسلحة الكيماوية ويدفن مئات آلاف منهم في مقابر جماعية لأن ذلك «شأن داخلي». لو كانت حكومة المالكي احترمت إرادة الناخب العراقي وقبلت بنتائج الانتخابات التي أشرفت عليها المفوضية العليا المستقلة وأشادت بها الأممالمتحدة ودول العالم الأخرى، لما كانت هناك حاجة الى المطالبة بتدخل دولي أو عربي. لكن هذه الحكومة استحْلت السلطة، وبدأت تستخدمها لتقوية أنصارها وتوزيع المناصب المهمة عليهم وتثبيت دعائم الحزب الحاكم وإضعاف خصومه، ويبدو من خلال سلوكها أنها غير مستعدة للتخلي عن السلطة طوعاً، وهذه مشكلة جديدة ستثير اضطرابات واسعة قد تستدعي التدخل الدولي مرة أخرى، حتى وإن لم تطالب به القائمة العراقية الفائزة، لأن العالم الذي ذاق الأمرّين بسبب عدم الاستقرار في العراق خلال العقود الثلاثة المنصرمة، لن يسكت مرة أخرى على أي تجاوز على القوانين أو اعتداء على حقوق الآخرين من شأنه أن يساهم مرة أخرى في تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية وزعزعة الأمن والسلم العالميين. دول كثيرة تضررت من عدم الاستقرار في العراق خلال السنوات الثلاثين الماضية ولها مصلحة في الاستقرار، وأن ما يحصل الآن من تجاهل لنتائج الانتخابات سيؤسس لوضع غير مستقر ستمتد آثاره خارج الحدود. يتوهم السيد المالكي إن اعتقد أن في إمكانه البقاء في السلطة من دون تفويض شعبي، من خلال اللجوء إلى القضاء أو عبر نشاطات هيئة المساءلة والعدالة التي تحاول تقليص عدد نواب القائمة العراقية من خلال توجيه الاتهامات الباطلة اليهم. وعلى رغم أن بعض أعضاء قائمته بدأ يتضجر من تدخلات هذه الهيئة المستمرة في الشأن السياسي العراقي، إلا أنه لا يمكن نسيان أن المالكي كان قد أيد قرارها بحرمان مرشحين مهمين كصالح المطلك من حقهم في الترشح. كان يمكن أن يدخل المالكي التاريخ من أوسع أبوابه وربما يعود إلى السلطة من أوسع أبوابها لو أنه قبِل بنتائج الانتخابات التي قبلت بها الكتل الأخرى، الفائزة والخاسرة على حد سواء، إلا قائمته، التي كانت تشيد بعمل المفوضية حتى أظهرت النتائج الأولية تقدم القائمة العراقية، وعندها فقط شكك المالكي بالنتائج وادعى حصول تزوير، وليس معروفاً كيف يمكن المعارضة أن تزوّر الانتخابات، فهذا مخالف ل «المعتاد». ومن أبلغ ما قاله رئيس المفوضية، فرج الحيدري، في هذا المجال إن «من الصعب إجراء انتخابات يكون فيها الجميع فائزين»! في 2005 حاول سلف المالكي، زعيم حزب الدعوة السابق إبراهيم الجعفري، أن يتمسك بالسلطة بعدما فاز بتفويض قائمة الائتلاف بفارق صوت واحد لا غير على منافسه عادل عبد المهدي، لكن الكتل الاخرى عارضت ترشيحه بقوة، وقد ماطل لمدة سبعين يوماً، لكنه اضطر في النهاية للتخلي عنها، ودفع الثمن غالياً في الانتخابات الأخيرة إذ لم يحصل إلا على مقعد واحد فقط، على رغم كل ما أنفقه من أموال على الدعاية الانتخابية. وبالطريقة ذاتها، فإن خلفه المالكي لن يتمكن من البقاء في السلطة مهما فعل، وسيضطر في النهاية إلى التخلي عنها وتسليمها لغيره، وهذا سيقلص من شعبيته وفرص إعادة انتخابه مستقبلاً. إن محاولات الاستئثار والبقاء في السلطة ستؤثر من دون شك في احتمالات تولي حزب الدعوة السلطة في المستقبل، لأن الناخبين، والقوى السياسية العراقية الأخرى، ما عادوا يطمئنون إلى أن هذا الحزب يؤمن فعلاً بالتداول السلمي للسلطة، على رغم مدعيات قادته بأنهم الآن يؤمنون بالديموقراطية. لقد أصبح القانون الدولي هو الحاكم الآن على الحكومات الوطنية، وفي إمكان أي إنسان أن يتقدم الى الشرعية الدولية طالباً الإنصاف، وهذه المحكمة الجنائية الدولية الآن تلاحق متنفذين وزعماء دول، ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ولم يستطيعوا أن يحْتموا بالحدود والقوانين والجيوش الوطنية وذرائع السيادة والشأن الداخلي. لن يستطيع أحد في عالم اليوم أن يعمل في معزل عما يجري في العالم، واللبيب من اتعظ بالتجارب السابقة والتزم بالقانون ولجم نوازعه التسلطية ورغبته بالتمسك بالسلطة حتى وإن لم يكن فائزاً. لا يمكن استخدام القضاء في كل صغيرة وكبيرة لأن في ذلك تبديداً لموارد الدولة ومضيعة لجهود القضاة وإقحاماً لهم في أمور معروفة وواضحة للجميع، فالدستور والقانون واضحان ومن الضروري جداً أن يطبقهما الكبار قبل الصغار ولا يُلجأ إلى القضاء إلا في حالات الغموض القصوى. * كاتب عراقي.