يستحق جورج ميتشل المبعوث الخاص للرئيس باراك أوباما إلى منطقة الشرق الأوسط تصفيقاً حارّاً. فيبدو أنّ المحاولات الصبورة التي بذلها على مدى خمسة عشر شهراً لإقناع الإسرائيليين والفلسطينيين باستئناف المفاوضات على وشك أن تثمر، إذ من المتوقع أن تبدأ المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين في غضون أيام. ومما لا شك فيه أنّ الطرفين ينظران بعين الشكّ إلى المفاوضات المقبلة ويدركان عمق الشرخ بين مواقفهما. فقد شارف عمل ميتشل الصعب على بدايته. من المتوقع أن تدفع المفاوضات غير المباشرة ميتشل إلى التنقل ذهاباً وإياباً بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. وفي حال تمّ إحراز تقدّم في غضون أربعة أشهر، وهو أمر غير مؤكد حصوله، قد تبدأ المفاوضات المباشرة على أن يبقى ميتشل محكماً سيطرته على هذه العملية. كيف يمكن تفسير سبب النجاح الذي حقّقه ميتشل لغاية الآن حتى لو كان جزئياً؟ من الواضح أنّ العامل الأساسي وراء نجاحه يكمن في الدعم القوي الذي يقدّمه إليه الرئيس أوباما. والجدير ذكره أنّ الإنجازات الأخيرة التي حقّقها أوباما ساهمت في تقويته ومنها إقرار مشروع قانون إصلاح الرعاية الصحية والتوقيع على معاهدة «ستارت» الجديدة مع الرئيس الروسي وتعديل النظام المالي واستعادة سلطته الرئاسية وزخمه بعد مرور سنة صعبة على رئاسته. ولا بدّ لميتشل أن يأخذ في الاعتبار الموقع الذي سيحتله في كتب التاريخ في إطار سعيه لأن يكون مهندس السلام الإسرائيلي - الفلسطيني، الأمر الذي حاول عدد كبير من أسلافه تفاديه. وخلف أسلوبه اللطيف والمحبّب، يتمتع ميتشل بقدر كبير من القوة وهو ما ينتظره المرء من هذا السياسي والمحامي ورجل الأعمال الناجح الذي كان زعيم الأكثرية في مجلس الشيوخ الأميركي من العام 1989 ولغاية العام 1995 ورئيس مجلس إدارة شركة «وولت ديزني» من العام 2004 ولغاية العام 2007. يعلم رئيس الوزراء نتانياهو أنه لا يسعه إثارة خلاف عام مع رئيس أميركي قوي. فلا يمكنه أن يخاطر بالدعم الديبلوماسي والمالي والعسكري الكبير الذي تحصل عليه إسرائيل من حليفها الأميركي. وتخشى الأوساط الإسرائيلية اليمينية من أن تؤدي القطيعة مع واشنطن إلى الإخلال بائتلاف نتانياهو، الأمر الذي سيتسبب حتماً بانهياره. فضلاً عن ذلك، يعتقد البعض أن هدف أوباما الحقيقي يكمن في الإطاحة بنتانياهو. غير أنّ نتانياهو لم يعدل أبداً عن عزمه على ضمّ القدسالشرقية العربية إلى «عاصمة إسرائيل الأبدية وغير المقسمة». ولم يتخل شركاؤه في الائتلاف اليميني المتطرف عن طموحهم بإنشاء إسرائيل الكبرى. لكن ينبغي عليهم توخي الحذر. فأي تأخير يجب أن يتمّ التوافق عليه وإجراء التعديلات اللازمة المترتبة منه. أدى أوباما لغاية اليوم دوره بذكاء. فقد أوضح أنه يتوقع أن تقدّم إسرائيل تنازلات حقيقية مقابل التعهدات المتكررة التي أعلن عنها والقاضية بالاستمرار في دعم أمن إسرائيل وممارسة الضغوط على إيران بسبب برنامجها النووي، إضافة إلى عدم رضاه الصريح عن قيام سورية بتسليح «حزب الله». وخلال هذا الأسبوع، مدّد أوباما العقوبات التي فرضها جورج بوش الابن على سورية. ونقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» يوم السبت الماضي أنّ الولاياتالمتحدة تجري أيضاً مفاوضات مع مصر حول اقتراح يقضي بجعل منطقة الشرق الأوسط خالية من الأسلحة النووية وهو الهدف الذي طالما سعت القاهرة إلى بلوغه. وفي حال استمر نتانياهو في إعاقة سبيل السلام فلن تلزم إدارة أوباما الصمت بعد الآن حول ترسانة إسرائيل النووية، بل ستنضم إلى المجتمع الدولي في ممارسة الضغوط عليها حتى توقّع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية وتسمح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بمعاينة منشآتها. يعتزم أوباما بالتالي اعتماد سياسة العصا والجزرة. أما في ما يتعلق بالفلسطينيين، فيعتبر الخلل في توازن السلطة مع إسرائيل كبيراً للغاية إلى حدّ أنه لا يسعهم فعل شيء سوى وضع ثقتهم في أوباما. وقال عباس خلال مقابلة مع صحيفة «الأيام»: «لا أود أن أفقد الأمل. يجب أن نحافظ على الأمل على رغم أنني أرى عدداً كبيراً من العوائق وأشعر أحياناً أن البعض في إسرائيل لا يريد السلام. لكن يجب أن نستمر في المحاولة حتى اللحظة الأخيرة». ويتوقع عباس أن يسمح له دعم اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية ودعم جامعة الدول العربية بالمضي قدماً في المفاوضات غير المباشرة على رغم اعتراض حركة «حماس» والمتشددين في العالم العربي الأوسع. أما سورية فغير راضية عن الشروط المبهمة التي ستجرى بموجبها المفاوضات غير المباشرة. تفرض الصفقة التي أعدها ميتشل تجميداً لبناء المستوطنات مدة أربعة أشهر في القدسالشرقية على ألا يتمّ الإعلان عن هذا الأمر رسمياً وعلناً للحفاظ على سمعة نتانياهو. ولا شك في أن ذلك لا يراعي الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية. فقد أعلن كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات الذي حاول استيعاب الموضوع: «في حال قامت إسرائيل ببناء منزل واحد في الضفة الغربية فسيعلّق الفلسطينيون المفاوضات مباشرة». وفي إطار الاستجابة للمطالب الأميركية، يبدو أنّ نتانياهو وافق على تأجيل النقاش حول مشروع بناء 1600 وحدة استيطانية في شعفاط في القدسالشرقية مدة سنتين، مع العلم أن هذا المشروع تسبّب بتوتر في العلاقات الأميركية - الإسرائيلية بعدما تمّ الإعلان عنه خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها نائب الرئيس الأميركي جو بادين إلى إسرائيل. أما التنازلات الأخرى التي يبدو أنّ نتانياهو وافق على تقديمها فتتضمن تمديد فترة التجميد الجزئي للاستيطان في الضفة الغربية إلى ما بعد شهر أيلول (سبتمبر) المقبل وإطلاق سراح ألف أسير فلسطيني وتخفيف الحصار على قطاع غزة وإزالة بعض نقاط التفتيش العسكرية في الضفة الغربية وإعادة فتح بعض المؤسسات الفلسطينية في القدسالشرقية مثل «بيت الشرق» وغرفة التجارة العربية. والجدير ذكره أن نتانياهو شدّد على ضرورة ألا يتمّ تقديم هذه التنازلات دفعة واحدة بل تدريجياً بعد استئناف المفاوضات. وفي حال سارت هذه الأخيرة على ما يرام، ستكون هذه التنازلات بمثابة مبادرة حسنة النية من جانب إسرائيل وليس استجابة للمطالب الأميركية. وعلى رغم استمرار الزعماء الإسرائيليين في التحدي، فهم يدركون التدهور الحاد الذي لحق بصورة بلدهم في العالم بسبب الحروب المدمرة التي شنتها اسرائيل في لبنان وفي قطاع غزة وبسبب القمع المستمر للفلسطينيين. وتمثّل آخر دليل على ذلك في رسالة وقّع عليها مفكرون يهود أوروبيون وأُرسلوها إلى البرلمان الأوروبي يوم الأحد الماضي. وتعتبر هذه الرسالة المستوطنات والاحتلال الإسرائيلي «خطأ معنوياً وسياسياً»، مشيرة إلى أن ذلك «يعزّز عملية نزع الشرعية غير المقبولة التي تواجهها إسرائيل حالياً في الخارج». وأضافت الرسالة أنّ الدعم النظامي لسياسة الحكومة الإسرائيلية هو أمر خطير. وتعتبر هذه المجموعة التي تطلق على نفسها اسم «جي كول» أنها مشابهة ل «جي ستريت»، وهي مجموعة الضغط اليهودية الأميركية المعتدلة التي نشأت مقابل مجموعة الضغط الأميركية المتشددة الموالية لإسرائيل ولحزب الليكود (ايباك). وتضم المجموعة الأوروبية دانيال كوهن بنديت وألان فينكيلكراوت وبرنار هنري ليفي الذين يعتبرون من بين الموالين لإسرائيل في صفوف المفكرين الفرنسيين. من الواضح أن نتانياهو يتعرض الآن للضغط. لكن إن لم يضع الفلسطينيون حداً للخلافات في ما بينهم التي تدمرهم، وإن لم يتحرك العالم العربي لتقديم دعم قوي لهم، سيبقى نتانياهو في السلطة وسيتم استكمال بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية وسينضم جورج ميتشل إلى اللائحة الطويلة التي تضم أسماء المبعوثين الأميركيين إلى منطقة الشرق الأوسط الذين فشلوا في مهمّتهم. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط