«مهمة ليست سهلة، تلك التي تواجه القصَّاص الجيد؛ فهو كالنحَّات من حيث إنه ليس مقبولاً منه نسبة خطأ؛ فالفكرة يجب أن تكون واضحة في داخله، والعمل الفني في ذهنه مهما استخدم من حجم خامات إن كان جبلاً أو حتى قطعة من بازلت أو رخام، يجب عليه أن يستهلك الكثير من المادة الخام لينتج عمله الفني في شكل مكثف وقوي». هكذا يصوغ شريف عبدالمجيد (1971) القصَّاص والسيناريست والمصور الفوتوغرافي المصري رؤيته لفن القص الذي يعمل عليه منذ 22 عاماً. ولأنه يفترض أن يكون لكل كاتب خاصيته التي تميزه، يسعى عبدالمجيد - ولد ونشأ في القاهرة وهو من أصول نوبية - باحثاً عن أسلوب وصوت خاص «وسط ذلك الإرث الكبير الذي قدمه كبار الكتّاب في هذا الفن». ويعلّق عبدالمجيد على مقولة (زمن الرواية) التي ترسخ لهيمنة جنس من دون غيره من الأجناس الأدبية على المشهد الإبداعي، وما تابعها من رواج بات ظاهراً في سوق النشر والتوزيع، وبخاصة في السنوات الأخيرة «الروائي أشبه بفنان اللوحة الزيتية؛ يمكن أن يكسب أكثر وأن يشتهر أكثر بينما يكفي فنان مثل محمود مختار تمثال نهضة مصر». في عام 2008 نال عبدالمجيد المركز الأول في جائزة ساويرس عن فن القصة القصيرة وإلى جانب مجموعاته القصصية ومن بينها «خدمات ما بعد البيع»، و «فرق توقيت»، و «مقطع جديد لأسطورة قديمة»، و «كونشيرتو الزوجين والراديو»، و «جريمة كاملة»، وأخيراً «تاكسي أبيض». أصدر عبدالمجيد كتابين عن الهيئة المصرية العامة للكتاب باسم «سلسلة الثورة غرافيتي»، الأول عنوانه «أرض أرض»، والثاني عنوانه «مكملين». وكتاب ثالث «سيوة... ظل الواحة «مجلد مصور عن الواحة يرصد تاريخها ومعالمها وآثارها وعادات أهلها من خلال الكاميرا التي يحاول من خلالها» استخدم بلاغة مختلفة؛ هي بلاغة المشهد» وفق قوله. في مجموعتك القصصية الخامسة «تاكسي أبيض»، تبرز الفانتازيا، متى يلجأ الكاتب لصوغ حكايته في قالب فانتازي؟ - ككاتب من العالم الثالث أنت لا تبحث عن الفانتازيا، بل إن وجود هذه المجتمعات في القرن الواحد والعشرين كمجرد مجتمعات استهلاكية لا تنتج أو تشارك في منجزات العلم والتكنولوجيا، هو وجود فانتازي في الأساس ويمكن اعتبار ذلك زاوية للرؤية في التعامل مع الواقع. حالة الفزع الداخلي والتربص اللذين يسيطران على الأبطال الثلاثة؛ سائق التاكسي الأبيض، والرجل العائد من عمله في ساعة متأخرة، والمرأة المنتقبة التي أجبرتها الظروف على العودة إلى بيتها في توقيت متأخر، هل هي نتيجة متغيرات طرأت على الواقع المصري في السنوات الأخيرة؟ - قصة «تاكسي أبيض» فيها تمثيل جيد لطريقتي في الكتابة؛ القصة تدور حول سائق تاكسي وراكب. الراكب الذي يحاول أن ينجو بنفسه من أخطار الطريق وعندما يركب التاكسي يجد سيدة منتقبة في الخلف ولهذا يدور صراع في خيال كل منهما في عقله اللاواعي وتصورات كل منهما عن الآخر وكيف سيتصرف إذا ما هاجم أي منهما الآخر لسرقته مثلاً. الحدوتة أو الحكاية في شكلها التقليدي ليست عنصراً رئيساً في قصصك؛ فالسارد مشغول أكثر برصد الحالة الإنسانية في تجلياتها المتعددة والمتباينة عبر سرد مسكون بنزعة تأمل يغلب عليها الجانب الفلسفي؟ - بالضبط، فالمهم ليس الحدث في حد ذاته، على رغم أنه يتسم بقدر كبير من الواقعية والعادية، ولكن هناك مساحات التأويل وتعددها هو ما يعنيني، فهي للقارئ الذي يبحث عن القصة العادية سيجد نفسه فيها وهي مفتوحة لكل مساحات التأويل بل وفيها رمز، فالتاكسي الأبيض هو علامة على مدينة القاهرة ويمكن أن يعتبر التاكسي نفسه رمزاً لما يحدث في مصر بل ويمكن اعتبار أن القصة عن الخوف الوجودي من الآخر والمجهول الكامن في كل منا. ربما تكون القصة القصيرة هي الأنسب لإيقاع العصر؛ لكن الحاصل على أرض الواقع أن الرواية لا زالت تتصدر المشهد الإبداعي، وتفرض سطوتها على القارئ، هل صحيح أننا نعيش زمن الرواية؟ - الكتابة هي استعداد شخصي ومتعة ولا أتصور أن الكاتب يمكن أن يكتب وفق نموذج جاهز، ولهذا ليس المهم بالنسبة إلي رواج مقولات نقدية مع أو ضد فن القصة القصيرة ولكن الذي يهمني هو أن تكون لي بصمة خاصة في ما أنتجه من فن وذلك مثل الفن التشكيلي على سبيل المثال. فرواج أعمال التصوير الزيتي مثلاً لا يعني عدم أهمية فن النحت أو فن الجرافيك، فكل منها له جمهوره والقارئ يستقبل الأعمال الأدبية سواء قصة قصيرة أو مسرحاً أو رواية، وفي العالم نجد فوز كاتبة قصة قصيرة بجائزة نوبل، وكذلك كاتبة تعتمد على الواقعية التوثيقية في عملها. ولهذا أعتقد بأننا يجب أن نوسّع من إدراكنا وطريقة استقبالنا للعمل الأدبي بمفهومه الشامل. تقول «الكتابة هي استعداد شخصي ومتعة»... الوعي بها والرغبة في ممارستها، كيف بدآ؟ وما هي الروافد الأولى التي ساهمت في تأسيس هذا الوعي وكانت بمثابة الدافع أو المحرك؟ - في الجامعة ومع اندماجي في الحركة الثقافية في كلية التجارة الخارجية، كانت البداية في ممارسة الكتابة، وكان ذلك في بداية التسعينات من القرن الماضي وتحديداً في العام الثاني من الدراسة الجامعية، وقد شاركت في مسابقة القصة القصيرة التي تقيمها الكلية وحصلت على المركز الأول ونشرت القصة في جريدة «الأهرام المسائي»، الجريدة الجديدة في ذلك الوقت عام 1992 وعمري 21 سنة، وكان رد الفعل محفزاً جداً على الاستمرار. ساهم في زيادة الوعي بقيمة الكتابة والإبداع وجودي في بيت لأب يحب الكِتاب ويهتم به ومع وجود أخ أكبر لديه كاميرا ويدرس السينما. كل ذلك كان مهماً جداً في تشكيل الوعي. المشهدية والتفاصيل الصغيرة والتكثيف عناصر القصة القصيرة والتي تتوافر في قصصك؛ هل ترى أنها كافية لصوغ بناء قصصي جيد؟ - المشهدية والتفاصيل الصغيرة والتكثيف هي عناصر القصة القصيرة، وهي شرط الفن الجيد، ولكن اعتقد بأن ما يميز عملي ليس هذا فقط، ولكن طريقة تجميع هذه التفاصيل وإعادة تفكيكها ووضعها في شكل محايد من دون ضجيج داخل البناء القصصي لتشكل في النهاية رؤية تخص الكاتب. اختيار مفردات وأسماء أجنبية كعناوين لبعض قصصك؛ هل يأتي بدافع التجريب أم هناك أسباب أخرى؟ - بعض العناوين الأجنبية لبعض القصص يأتي في سياق الإيهام بالواقع، كون عالمي يدور في سياق لغة الشخصيات أحياناً وطريقة حديثها في اللحظة الراهنة لتعطي ما يشبه صدقية الجو العام الذي تدور فيه الأحداث. «الشجرة التي قدّسوها منذ آلاف السنين ورووا حكاياتها بروايات مختلفة لم تصبهم اللعنات عندما أستأصلوها»... هذه القصة القصيرة جداً وعنوانها «خرافة» ضمن مجموعة «جريمة كاملة» تحيلنا على مقولة «الأدب واستشراف المستقبل»، إلى أي درجة يمكن للأدب أن يستشرف المستقبل؟ - الأدب ربما يرى النقاد والقراء أنه يستشرف المستقبل ولكن أرى هذه الجملة صارت كليشيهاً يقال على كل الأعمال الأدبية. ربما نستطيع استشراف المستقبل أيضاً من مقالة جيدة ومن فيلم تسجيلي أو فيلم روائي. وبالتالي هو جزء من العمل الفني حتى لو كان يتحدث عن الماضى. بعض القصص القصيرة جداً في المجموعة نفسها مثل «انتظار»، و «سؤال» يكشف عن ذات محملة بالأسئلة وعن حس ساخر لكنها السخرية التي لا تعرف يأساً أو إحباطاً؟ - السخرية والمفارقة والتكثيف هي عناصر أساسية في فن القصة القصيرة جداً. المتتبع لأعمالك يلحظ ميلاً نحو التجريب وتجاوز الحدود الفاصلة بين الفنون... - لا أستطيع أن أقول إن عملي الأدبي هو عمل تجريبي، فذلك عمل النقاد والباحثين والدارسين والقرّاء. وكل ما أعرفه هو أنني أحب كتابة القصص في شكل يخصّني ويرضيني ويعبّر عن حلمي بالتعبير بالقصة القصيرة التي تستفيد من الفن التشكيلي والسينما والفنون البصرية، كما تستمد من جماليات فن المسرح وبقية الفنون عناصر عدة، وما يشغلني عند كتابة القصة هو ذلك الإرث الكبير الذي قدمه كبار الكتاب في هذا الفن وهنا يكون دوري هو البحث عن أسلوبي وصوتي الخاص. أنت مشغول بالتوثيق البصري؛ وإضافة إلى ما أنجزته في هذا المجال فإن لديك مشروعاً تحت عنوان «وصف مصر بالصورة». - لست مشغولاً فقط بالتوثيق البصري على أهميته، ولكن بجماليات فن الصورة، فثقافتنا العربية في مجملها هي ثقافة وصفية، ولكن الصورة هي فن العصر وهدفي هو الوصول بذلك الفن إلى الجمهور الأوسع من طريق الكتب، فهي فنٌّ مُحمَّل بالمعاني والقيم الجمالية البصرية المكثفة وهو ما أقدمه في معارضي الفنيّة التي وصلت إلى أربعة معارض حتى الآن. في ظل قطيعة ظاهرة يصعب إنكارها حتى في وجود بعض الاستثناءات، كيف ترى التواصل بين الأجيال الأدبية في مصر؟ - التواصل بين الأجيال هو صفة المجتمعات الصحية وقد كنت محظوظاً فقد كتب عني الكاتب الكبير والناقد المتميز علاء الديب من دون معرفة مسبقة، ونشر لي في «أخبار الأدب» الكاتب الراحل جمال الغيطاني، وقدمني الكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد في أكثر من مقالة. لهذا أرى أن هناك تواصلاً جيداً بين الأجيال في مصر. تكتب منذ 22 عاماً، فإلى أي جيل أو تيار أدبي تنتمي؟ - فكرة الجيل هي فكرة خادعة وهي تستخدم فقط للتقييم النقدي؛ أكتب منذ 22 عاماً، ولكن أول أعمالي «مقطع جديد لأسطورة قديمة»، صدر عام 2002 وأحياناً أُصنَف نقدياً ككاتب من جيل التسعينات، وأحياناً أخرى ككاتب من جيل الألفية الجديدة وفق تاريخ النشر. وبالتالي، هذا أمر يشغل الناقد أو الباحث وسنجد مثلاً أن مجلة «غاليري 1968» والتي دشّنت جيل السيتينات نشرت قصصاً ليوسف الشاروني وهو من جيل سابق عمرياً، لكنه ينتمي إلى الجيل التالي بإبداعة الجديد والمتميز. من هنا، أي حكم قيمة بناء على فكرة الجيل هو حكم بهدف الدراسة وليس له ميزة ما. بعض أعمالك صدر عن دور نشر خاصة، فهل ساهم ذلك في رواج تلك الأعمال؟ - النشر الخاص أتاح فرصاً لكثير من الكُتَّاب، وله آليات عمل مختلفة عن النشر الحكومي، ودور النشر الخاصة هي في النهاية تهتم ليس فقط بجودة العمل الأدبي ولكن بأن يكون للكاتب جمهور ما ونجاح ما، لأنها لن تقبل بالخسارة. هل يواكب النقد - الذي يبدو انتقائياً أحياناً ويحكمه المجهود الشخصي والعلاقات أحياناً أخرى - المنجز الأدبي في مصر؟ - النقد في مصر جيد وهناك أصوات نقدية مميزة جداً مثل يسري عبدالله الذي يقدم أصواتاً إبداعية كثيرة ويلقي الضوء على تجاربها من دون تحيز. كما يوجد نقاد مهمون من أجيال نقدية مختلفة، وبالطبع كثرة الأعمال الأدبية ربما تشكل عائقاً أمام المتابعة النقدية. في عام 2008 حصلت على المركز الأول في جائزة ساويرس في مجال القصة القصيرة، وأخيراً حصدت مع آخرين جائزة أفضل فيلم تسجيلي طويل في المهرجان القومي للسينما في مصر عن فيلم «حيطان 2» والذي يوثق لغرافيتي الثورة المصرية، ما الذي تمثله الجائزة بالنسبة إلى المبدع؟ - الجوائز ليست وسيلة لتقييم الكاتب وكم من أعمال عظيمة نجحت بعد موت كتابها. فيحيي الطاهر عبدالله على سبيل المثال لم يحصل على جوائز في حياته؛ ولكن هو من أهم كتاب القصة القصيرة في العالم العربي، والجوائز ربما تكون مفيدة لانتشار الكاتب.