لم يكن يُهيأ لأصدقاء الناقد البحريني محمد البنكي أن الموت سيغدر به سريعاً فلا يترك له الفرصة للاحتفال بجائزة البحرين للصحافة العربية التي ستمنح مساء غد في المنامة، وكان هو أحد مؤسسيها ومديرها العام انطلاقاً من موقعه في وزارة الثقافة والإعلام البحرينية. كان أصدقاء محمد البنكي يتوقعون رحيله ولكن ليس في مثل هذه السرعة، فهو كان يقاوم السرطان الذي حل به قبل سنوات أربع، وظل يقاومه بما توافر له من أمل وشجاعة، مثلما قاومه بالكتابة و«التفكيك» على غرار المفكر الفرنسي جاك دريدا الذي وضع عنه كتاباً فريداً عنوانه «دريدا عربياً». لكنّ هذا الناقد المرهف، ذا النزعة الوجدانية والفضول الابداعي لم يتمكن من الانتصار على المرض، فرحل ولكن من دون أن يسلّم سلاحه. عندما انتقل محمد البنكي الى رئاسة تحرير جريدة «الوطن» البحرينية قبل بضعة أعوام فاجأ أصدقاءه بهذه الخطوة الجريئة التي قام بها، هو الناقد المتبحر في عالم النقد الحديث والمتمكن من أداته أو «عدته» النقدية، لكنه لم يلبث أن هجر هذه المهنة التي لم تكن تتوافق مع مزاجه. وكان هو أسس من قبل مجلة «أوان» النقدية التي استطاعت أن تتفرد بأهدافها ومنهجها وأفقها، حتى غدت احدى أهم المجلات في النقد الحديث والطليعي. كان يحلو لهذا الصديق أن يخص «الحياة» بمقالات له، حيناً تلو آخر، قبل أن يهمّ في ترؤس جريدة «الوطن»، وكانت لغته تنم عن علاقته الخاصة باللغة، متينة ومتشابكة وقادرة غالباً على حمل الثقل الفكري الذي كان يلقيه عليها. لم يستطع البنكي أن يختار اللغة البسيطة والسهلة حتى في عمله الصحافي، فهو كان يؤثر أن تكون لغته ذات طبقات وليس على القارئ إلا أن ينبش فيها. إلا أن رصانة محمد البنكي النقدية لم تحل دون لطافته أو دماثته كشخص يطفح بالمودة والألفة. فهو صديق حقيقي، يمرح ويمزح، وتكاد ابتسامته لا تغيب عن محياه. قبل شهرين زرت المنامة والتقيت به سريعاً في افتتاح معرض للفن التشكيلي البحريني وتواعدنا على أن نلتقي في المساء، لكن اللقاء لم يتم. كان البنكي كعادته أنيقاً ببدلته والكرافات، وكان يخفي خلف عينيه الألم الذي طالما كابده بعدما غزا المرض جسده. كان يشعر بأنه يودّع العالم رغماً عنه، هذا العالم الذي كان يعني له أكثر ما يعني، الكتابة والقراءة والجهد المستمر بحثاً عن الأجوبة المستحيلة.