هل هي حال إرباك وبلبلة أم هو قلق وتخبط؟ تلك الأسئلة طرحت على مؤتمر «معهد أبحاث الامن القومي» في تل ابيب، لهذه السنة. انعقاد المؤتمر تحت العنوان العريض «تغيير قواعد اللعب»، يعطي جزءاً من الرد على التساؤلات الكثيرة التي طرحت. فهذا المؤتمر الذي يعقد للسنة التاسعة على التوالي، كان يبحث استراتيجيات جديدة لإسرائيل، وكان القادة السياسيون والعسكريون يخرجون بمواقف شبه موحدة، ولكن هذه السنة، ظهرت الخلافات في الطروحات بين العسكريين، من جهة، وبين السياسيين من جهة اخرى، خصوصاً في ما يتعلق بالتهديدات المحدقة بإسرائيل من مختلف الجبهات. عندما يصل وزير الدفاع موشيه يعالون، الى وضع يعلن بكل صراحة خلافه مع غادي ايزنكوط، رئيس اركان الجيش الذي يعتبر المهندس والمخطط لسياسة الجيش فهذا يعني الكثير. يعالون الذي يحرص دائماً على إظهار الإسرائيليين في موقف موحد امام من يسميهم «الأعداء»، كان ظهوره مغايراً في مؤتمر الامن القومي، وربما لأن أيزنكوط هذه المرة لم يأت على «اليد الطيبة» ليعالون ورئيس الحكومة بنيامين نتانياهو، اللذين يقودان حملة واسعة ضد ايران. فأيزنكوط طرح موقفاً فاجأ الجمهور عندما قال ان «حزب الله» هو الخطر المركزي على اسرائيل وإن الاتفاق مع ايران ليس سلبياً بكل بنوده انما يشكل فرصة. فهذا الموقف، الذي ميز الجيش والمخابرات طول الوقت، تم التعبير عنه في الماضي في الغرف المغلقة. لكن رئيس الأركان اختار التصريح به علناً. وبدا وكأنه نوع من التمرد، اذ ان نتانياهو ويعالون يركزان في معركتهما ضد ايران على تحقيق هدف لم يخفياه وهو ابتزاز المزيد والمزيد من الدعم العسكري الأميركي تعويضاً عن الاتفاق النووي. يعالون ظهر بموقف مناقض لأيزنكوط حيث اعلن ان ايران هي العدو المركزي والأساسي لإسرائيل. واستطرد موضحاً «لقد تساءل بعضهم وطرح آخرون من هو العدو الحقيقي؟ وأنا اقول ان ايران هي العدو وهي مستمرة في مخططاتها ضدنا وتقوم بتشكيل وحدات مقاتلة كما سبق وشكلت وحدتي قنطار ومغنية ووحدات من الجهاد الإسلامي الفلسطيني ضد اسرائيل وتواصل جهودها»، لكنه اكمل جملته يقول:» حزب الله في لبنان يبقى الذراع الأساسية لإيران». قبل ظهور يعالون في اليوم الأخير من المؤتمر، سبقه آخرون ممن تطرقوا للوضع الأمني. وزير التعليم نفتالي بينيت، أقحم نفسه في الجانب العسكري فقال:» حزب الله في لبنان يواصل تسلحه واستعداده للمعركة المقبلة مع اسرائيل وهذا الحزب، وفق بينيت، يشكل خطراً كبيراً على اسرائيل اذ تمكن خلال السنوات الاخيرة من التحول السريع، من تنظيم يملك آلاف الصواريخ الى تنظيم شبيه بالجيش يملك عشرات آلاف الصواريخ الدقيقة». في اليوم الثاني من المؤتمر، وقبل ظهور يعالون، تصدر ملف «حزب الله» وسورية، اجندة المشاركين في المؤتمر، وفي مقدمتهم أيزنكوط. اختار الجيش اليوم ذاته ليكشف عن اعتقال فلسطينيين من طولكرم مدعياً انهما وثلاثة آخرين شكلوا تنظيماً بتوجيه ودعم نجل الأمين العام ل «حزب الله»، جواد حسن نصر الله. ولم يتأخر نتانياهو فوزع ديوانه بياناً شمل موقف الشاباك من اعتقال الخلية ليعلن ان «حزب الله» يستغل الأوضاع الأمنية في الضفة ليجند عناصر فلسطينية لتنفيذ عمليات ضد اهداف اسرائيلية. «الهوس من حزب الله» في اسرائيل وصل ذروته في اليومين الثاني والثالث للمؤتمر، عندما قرر الجيش ان يعلن انه اجرى على مدار اسبوعين مناورة عسكرية هي الأكبر وتحاكي سيناريوات الحرب المقبلة مع لبنان وسورية. وأعلن الجيش ان ابرز ما في التدريبات هو اطلاق النيران على آلاف الأهداف المتواجدة، بغالبيتها الساحقة، في بلدات الجنوب اللبناني. لا حل سحرياً الجنرال السابق في الجيش والنائب في الكنيست عن المعسكر الصهيوني، إيال بن رؤوفين، قال: «ان كل ما تفعله اسرائيل من تدريبات واستعدادات لا يضمن الأمن والحل السياسي وحده الكفيل بتحقيق الأمن لإسرائيل وللإسرائيليين ومن دون ذلك لا يمكن ايجاد اي حل سحري لضمانه». هذا الصوت لم يسمع، والخلافات التي ظهرت في تقييم الموقف الأمني والأخطار الحقيقية المحدقة بإسرائيل، خلال مؤتمر الأمن القومي، تعيد الى الأذهان الأجواء التي عاشتها اسرائيل بعد حرب لبنان الثانية عندما وقع خلاف كبير بين الضباط حول تقييم الوضع ونتائج الحرب والمسؤوليات. فالخلاف شمل يعالون وأيزنكوط ووزير الإسكان جنرال الاحتياط يوآب غلانط، الذي راح يهاجم ايزنكوط على طرح موقفه من الملف الإيراني والفرص التي قد تنشأ من هذا الاتفاق. والخلاف بين الإثنين كان الأبرز بعد حرب لبنان الثانية فغلانط لم يعجبه القول إن رفع العقوبات عن ايران سيولد الفرص فتوجه الى ايزنكوط قائلاً: «من يرتدي الزي العسكري عليه الانشغال بالتهديدات، بمعانيها وبصيغها. اما بقية الأمور فيجب ان تدار في القدس (حيث مقر الحكومة) وليس في تل ابيب (حيث مقر رئاسة الأركان)». لكن ايزنكوط وجد من يدافع عنه، اذ خرجت وسائل الإعلام الإسرائيلية بمقالات وتحليلات تشيد فيها بشجاعة خطاب ايزنكوط وصدق موقفه. حتى ان صحيفة «هارتس» نشرت مقالاً افتتاحياً حول الموضوع، تحت عنوان «رصانة ايزنكوط»، قالت فيه:» تشكل تصريحات ايزنكوط اعترافاً شجاعاً بمحدودية الجيش على خلفية العروض الكاذبة التي ينثرها السياسيون والتي ترى في الحلول العسكرية رداً جارفاً على كل شيء. في الفترة التي يتنكر فيه المتطرفون للقيم الديموقراطية، يمتاز موقف ايزنكوط بالرصانة التي تغيب عن القيادة السياسية والرسمية. فلأول مرة منذ 2007 نجح ايزنكوط بتوجيه وتمويل وإنتاج خطة عينية، تهدف الى ملاءمة الموارد لمهمات الجيش. ومن اجل تنسيق التطلعات قام بصياغة وثيقة استراتيجية ملزمة للجيش». واختتمت الصحيفة بالقول: «رئيس الأركان هو أهم شخصية في القيادة التنفيذية، لكن تأثيره في صياغة السياسة محدود. على خلفية الرصانة التي عرضها ايزنكوط، يبرز في شكل اكبر تهرب القيادة السياسية من الحسم، الذي سيدفع إسرائيل نحو مستقبل من السلام والأمن والعدالة الاجتماعية». حماس والأردن لم يكتف الإسرائيليون في حملتهم خلال الأيام الأربعة بإثارة أجواء الخوف من الجبهة الشمالية بل أَُضيفت إليها الجبهة الشرقية، تجاه الأردن، والجنوبية، تجاه غزة. وأعلن الجيش عن تكثيف العمل لإنجاز جدار امني جديد يحيط الحدود الشرقية مع الأردن، خشية تسلل «داعش» الى اسرائيل او تنظيمات متطرفة معادية وفي المقابل نقل وحدة جيش بمعداتها وآلياتها الى الجنوب، استعداداً لأي طارئ من قبل «حماس». ونشرت تقارير تعيد «حماس» من جديد الى قائمة التهديدات الخطيرة ضد اسرائيل فجاء في بعضها أنه بعد سنة ونصف السنة من «الجرف الصامد»، وصلت «حماس» الى مستوى جاهزية بما يكفي لاجتياز حرب اخرى امام الجيش الإسرائيلي. وطوّرت أيديولوجية ملائمة تشمل توجيه الضربة الأولى التي ستصدم الإسرائيليين وتشكل نوعاً من الانتقام الفلسطيني للضربة الأولى التي وجهتها إسرائيل في عملية «عامود السحاب». لقد تم، على الأقل، استكمال جزء من استعدادات «حماس» في غزة: الأنفاق المفخخة التي تصل الى داخل الخط الأخضر اعيد بناؤها، بما في ذلك تزويد كل نفق بفتحات عدة. إضافة الى ذلك تواصل القوات الخاصة «النخبة» والغواصون تدريباتهم في شكل مكثف. كما اعيد بناء قوة الطائرات غير المأهولة، واستكمل جزء من اعادة ملء مستودع الصواريخ. وهكذا، تفتح اسرائيل باب الحديث عن أربع جبهات. وإن كانت بذلك تقصد تخويف «الأعداء» في سورية ولبنان وإيران وقطاع غزة وحتى «داعش»، فإن الخوف يعشّش في إسرائيل ذاتها أيضاً.