كان أبي وأظنه لا يزال يحتفظ بكرتون مكوى في إحدى خزائنه التي تحوي بعض الخردة! أن تفتح الكرتون، كرتون المكوى أقصد، هو أن تفتح كوّة من عوالم ما كان لها أن تجتمع إلا في ذلك الكرتون، وحتى أكون معكم صريحاً فكرت ذات مرة أن أكتب رواية بعنوان: «كرتون المكوى» لكن في بعض الأحيان تجد أن مقالة كهذه ربما تكون مريحة لي وللقارئ، وقد توظف بشكل أفضل وأجدى، وأسلم، وذلك كي لا نهدر ورقاً على الحشو، وحتى نسهم في كبح جماح التصحر الذي طاولنا. الكرتون ببساطة كان لحفظ أشرطة الكاسيت، وهذا قد يحدث، قد نجد أناساً في جميع أنحاء العالم يحفظون أشرطة كاسيت في كرتون مكوى ماركة «فيليبس» لكن العبرة بمحتوى الكرتون، وهذا المحتوى هو ما جعلني أكتب هنا.لن أطيل في الحديث، كرتون أبي يضم ما يأتي من أشرطة: - قرآن كريم بصوت عبدالباسط، محمد يوسف، قارئ يمني نسيته. - أغاني لمحمد سندي، أم كلثوم، وفيروز، عبدالحليم، سميرة توفيق، أبوبكر سالم، أيوب طارش، عزيزة جلال. - محاضرات دينية لعبدالحميد كشك، أحمد القطان، حسن أيوب، عبدالمجيد الزنداني. - خطبة للملك فيصل - رحمه الله - عن فلسطين، يوم كانت إسرائيل عدونا الأول. - قصائد عرضة، مجالسي، أغاني جنوبية على العود. - أحاديث جدتي. .... أتصور، بل أجزم أن هذا الكرتون أسهم في تكويني المعرفي، وأكسبني نوعاً من الإثراء والإيمان بالتعددية، أسهم أيضاً في الاحتواء، وقبول الآخر، هذا الكرتون الذي جمع مكونه أبي أسهم بشكل كبير في تكوين شخصيتي التي أنا متصالح معها حد الثمالة، وقد يراها البعض متناقضة. دخلت المدرسة وتعلمت، وفتح أبي لي أبواب مكتبته العظيمة، فأخذت أقرأ بشغف حتى قلق على تحصيلي الدراسي!. لم أتعثر إلا في سنتين فقط، بسبب نزوات المراهقة، أكملت دراستي، كانت أمي تريد مني أن أتوقف عن الدراسة وأكتفي بالثانوية وألتحق بالسلك العسكري، وكان والدي يحلم بأن أصبح قاضياً، وكانت أمنيتي أن أصبح معلماً للرسم، ولكن كل هذا لم يتحقق، عملت مشرفاً على حاويات القمامة جنوبجدة، ودخلت الجامعة منتسباً ومنكسراً، وتخرجت بتقدير مقبول، وبعد التخرج وجدت عزاء في الكتابة، فأصبحت أكتب القصص والروايات. نعود لكرتون المكوى. ماذا يعني أن يكون الكرتون مؤثراً؟ هو أن أرفع شعاراً أن «الكرتون هو الحل»! القرب حد التلاصق بين الكاسيت، القرب بين الدين، والفن، والثقافات المحكية، وما يتبعه ذلك من ثقافة الإنصات بحب، الإيمان بالتعددية، اليقين بالاختلاف الذي زرعه الله فينا كبشر، طرح الرأي من دون تلقينه، الحوار بحب، إن ما فعله أبي في خلق هذا الكرتون لهو أمر عظيم تعجز عنه الحكومات، هو أمر تنسجه البساطة، والوعي غير الملوث، والفطرة السليمة، والتعامل مع الأشياء بحب وأكررها مراراً. طبعاً أبي عسكري قضى كل حياته يخدم الوطن، ولكنه كان حراً في التلقي، كان يقرأ للجميع، ويحب الجميع، لم يكن أبي مسكوناً بالكراهية ولا بالشك، على رغم أنه نشأ في كنف اليتم وحيداً في قرية يستند إلى أم مترعة بالوجع، ذلك الوجع الذي لم يتركها تأنس بصحبة اليتيم لترحل سريعاً هي الأخرى. تعلّم أبي القراءة والكتابة على كبر، فكان يعمل في الحكومة صباحاً، ويدرس مساء، واكتفى بالابتدائية. أبي كان يحب القراءة في جميع أنواع المعرفة، وكانت كتب التاريخ وعلم الأنساب والأدب هي أكثر العلوم اطلاعاً، وفي الدين كان محباً لمذهب أبي عبدالله محمد بن إدريس الشافعي، وكان يحب ما يكتبه السيوطي، وابن أبي الدنيا، والغزالي، وأيضاً ما كتبه بعض الإخوان أيضاً، مثل «السلوك الاجتماعي في الإسلام» لحسن أيوب، وأذكر أنه أعاد قراءة كتاب «فقه السنة» لسيد سابق - رحمه الله - حتى تمزق، ثم اشترى نسخة أخرى فقرأ تلك النسخة حتى مزقه المرض، أبي زرع في قلبي حب الشيخ حسن أيوب وكشك وأحمد القطان، ولا يزال يذكرني بموقف سيد قطب مع الطغاة حتى أحببته. هذا لا يعني ألا أختلف مع أبي، بل اختلفت معه في أشياء كثيرة جداً، لكن ذلك لا يصل إلى درجة القطيعة، هو أبي وأنا ابنه، هو له الفضل العظيم في كل شيء بعد الله، حتى في تكويني الثقافي والمعرفي، وهو يحبني لأني أتخذ الموقف المضاد، حتى في الأشياء المصيرية في حياتي. في أحداث مصر الأخيرة أنا كنت ضد أي سلطة عسكرية تتولى زمام الحكم، وكان أبي يرى أنه لا قوة تحفظ الأمن، وتردع العرب إلا العسكر في وقتنا الحالي. هذا مثال على الاختلاف، على رغم أن المكون الثقافي ومصادر التلقي واحدة، مكتبة واحدة، وثقافة شفهية واحدة، وكرتون مكوى واحد، على رغم ذلك كان الاختلاف والحب في الوقت ذاته، إنها سنة كونية فطرية، وهذا ما زرعه الله في البشر الاختلاف، الاختلاف والتنوع أمرٌ صحي وفطري، ولو لم يكن لكنا أقرب للدمى وبيادق الشطرنج، نتشابه في الشكل والفراغ. كبرت وكوّنت لي كرتوناً خاصاً بي، حوى أشرطة لمحمد عبده وطلال مداح، وسعدون جابر، وأنغام، وألبوماً للمصحف المجود للمنشاوي - رحمه الله - بعض الأناشيد الجهادية، محاضرات للشيخ سفر الحوالي وسلمان العودة في عهده القديم دفعني إليها المنع، وأشرطة علمية في مذهب الإمام أحمد. .... النقلة كانت في أفلام التحويل، من الصورة المسموعة إلى الصورة المرئية، فكانت الحكايات تأتي مرئية، وعرفت آل بتشيو، روبرت دي نيرو، أنتوني هوبكنز، كيفن كوستنر، ثم الجميلات ميريل ستريب، نيكول كيدمان، جوليا روبرتس. ثم كانت مرحلة الشغف بالأدب، الأدب العربي والأجنبي، خصوصاً الأدب الاشتراكي، الرواية القصة، المسرح، دستويسفكي، تشيخوف، طاغور، السياب، نجيب محفوظ، مكسيم غوركي، ثم انتقلت إلى مرحلة طلب العلم الشرعي، ثم هدانا الله للزواج، وتفرغت للأدب والكتابة، والآن أوقفنا حياتنا للأولاد، بلغنا عتبات ال40، وطاولنا الشيب، ومازلنا نتوغل في الأحوال. هي خطى، ومراحل كنت خلالها أتشكل وأغير أفكاري، وأنظر وأتأمل من دون أن يتدخل أبي - وهو أقوى سلطة - في قراراتي وأفكاري. الذي أريد أن أقوله أن الله خلقنا وجعل فينا القدرة على الاختيار، حرية الخيار، تلك الحرية التي زرعها الله في الأب الأول، وترك له الخيار ليس في مصيره فقط بل في مصير البشرية جمعاء، حتى قضية الخلود كانت راضخة لمسألة الاختيار. إن من يفرض على الناس الآراء، واعتناق القناعات، إلى درجة محاسبتهم على الحب والكره، هو إنسان يعاني من جهل مركّب، وتشوّه في الفكر، وجحود بسنن الله التي زرعها فينا كبشر. بث الرعب بين الناس، واللجوء إلى السياسات القمعية، والنكوص إلى سياسة الحديد والنار لمحاسبة الخلق على أفكارهم وعواطفهم، كل هذه الأمور غير مجدية في زمن الفضاءات المفتوحة، وفي زمن العولمة والقرية الصغيرة التي تجمعنا، بل هي أجواء خصبة لخلق التطرف، وبذر الإرهاب، وصنع أناس هم أقرب للعبوات الناسفة. باختصار إن الاكتفاء بالتلقين، وثقافة الرأي الواحد، والإرهاب الذي تمارسه الدول المسكونة بالخوف، لن تجدي نفعاً. الحرية، الحوار، حرية الرأي، والحب، القرب، الإنصات برغبة، الإيمان بالاختلاف، الاحتواء، الشفافية المطلقة، الاحترام، العدل، كل هذه الأمور هي أشياء زرعها الله فينا لنصقل إنسانيتنا، لنتحلى بالنبل، لنعيش أحراراً نقول الحق من دون خوف من أحد. إن الاستبداد والقمع، ومصادرة الحريات، وإدانة الأفكار والآراء المجردة من أي فعل، والإقصاء، والهوس برمي تهم الخيانة والعمالة على من يختلف معنا في الفكر، إنما هو رجوع لأزمنة موحلة بالتخلف والجهل والتوحش. أخيراً: أشياء كثيرة، وأحاسيس مبعثرة، وذكريات حميمة، وتصورات مبثوثة، وكلام كثير يتصدر الناصية، ما أريد قوله في النهاية، أني كتبت هذه الكلمات بدافع الحب، والرغبة في قول ما أراه أنه قد يقارب الصواب. * روائي وقاص سعودي.