بعد سنوات من تزايد نفوذه في الوسطين الكردي والتركي، يدخل حزب الشعوب الديموقراطي مرحلة جديدة فيها الكثير من التحديات، وهي نابعة من الدور الذي تصدى له الحزب منذ البداية عندما طرح نفسه حزباً ديموقراطياً يسارياً ممثلاً للأكراد والأتراك معاً، في دولة لا يعترف دستورها إلا بالقومية التركية قومية سائدة تسخّر لها الإمكانات الاجتماعية والسياسية والثقافية والأمنية، مقابل تهميش بقية القوميات والمكونات العرقية وإقصائها، في بلد يعاني في الأصل من إشكالية الهوية والخيارات بحكم موقعه الجيواستراتيجي. عندما تأسس حزب الشعوب الديموقراطي عام 2012، وجد فيه كثير من الأكراد والأتراك الجسر السياسي لإيجاد حل سياسي للقضية الكردية في تركيا بعد أن أفضت التجربة الدموية للحرب بين حزب العمال الكردستاني والحكومات التركية المتتالية، إلى جروح عميقة لدى المجتمعين الكردي والتركي، فخطاب الحزب قام على السلام والقواسم المشتركة وحمل راية الفئات المهمشة، وبفضل ذلك حقق نجاحاً كبيراً، عندما تجاوز العتبة الانتخابية مرتين العام الماضي ودخل البرلمان. لكن، ومع وصول مسار الحل السياسي بين تركيا وحزب العمال الكردستاني إلى طريق مسدود، يجد الحزب نفسه أمام تحديات الحفاظ على خطابه السابق، إذ يكاد ينجرف نحو التعبئة القومية في ظل الحرب التي أعلنها أردوغان على الكردستاني، حيث يقول لسان حاله يومياً إنه سيواصل الحرب ضد المقاتلين الأكراد حتى القضاء عليهم، وبفعل هذه الحرب عاد من جديد صوت الرصاص ليكون سيد الموقف، بعد أن بشر زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله اوجلان قبل نحو سنتين بأن عهد الرصاص انتهى إلى غير رجعة. حزب الشعوب الديموقراطي وبفعل بنيته الاجتماعية (الكردية) ومنظومته الفكرية، يجد نفسه محكوماً برفع راية الدفاع عن الحقوق القومية الكردية، وعليه انتقل في مرحلة ما بعد دخوله البرلمان إلى طرح تصوره للتطلعات الكردية في حكم محلي يحقق الهوية للأكراد، وفي هذا السياق ينبغي النظر إلى تصريحات زعيم الحزب صلاح الدين دميرطاش خلال مؤتمر المجتمع الديموقراطي (في 25 كانون الأول/ ديسمبر في مدينة دياربكر) بشأن إقامة حكم ذاتي في جنوبتركيا وشرقها، بل والحديث للمرة الأولى عن إقامة دولة كردستان، وكانت التصريحات بمثابة صب الزيت على النار، إذ أثارت ردود فعل غاضبة في الشارع التركي على المستويين الرسمي والشعبي، ووجد الأتراك فيها نية دفينة للحزب للتوجه نحو الانفصال، ولعل هذا ما يفسر مطالبة أردوغان بضرورة أن يحاسب دميرطاش على تصريحاته، ووصف أحمد داود أوغلو كلامه بالخيانة، وقد عرفت الحكومة التركية كيف تستغل هذه التصريحات وكذلك زيارته إلى موسكو في تصوير الحزب وكأنه يتآمر على الدولة التركية ويسعى إلى فصل المناطق الكردية تطلعاً إلى إقامة دولة كردية مستقلة. ولعل بسبب هذه التصريحات لم تعد صورة دميرطاش في الإعلام والشارع التركيين صورة الزعيم اليساري الذي يجمع الأكراد والأتراك والعرب والأرمن معاً، أو صورة الرجل الذي يحمل خطاب السلام ويقوم بالوساطة بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني بحثاً عن حل سلمي مقبول للقضية الكردية في تركيا، بل باتت صورته في نظر الحكومة التركية صورة الرجل أو الحزب الذي يشكل رأس حربة لحزب العمال الكردستاني ويحاول تنفيذ مشروعه السياسي على الأرض من داخل البيت التركي. تصريحات دميرطاش بشأن الحكم الذاتي، والتي دفعت بالقضاء التركي إلى التحرك سريعاً ضده، فتحت مرحلة جديدة من العلاقة مع حزب الشعوب الديموقراطي، فالتهم الموجهة إليه خطيرة، تتعلق بالانفصال وخرق الدستور، ومثل هذا الأمر يشكل حساسية كبيرة للنظام السياسي في تركيا، ولعل هذا ما يفسر مطالبة أردوغان بتجريد دميرطاش من الحصانة البرلمانية تمهيداً لمحاكمته، وإن حصل مثل هذا الأمر، فسيكون كافياً لوضع دميرطاش إلى جانب أوجلان في المعتقل ربما لسنوات طويلة، ما يعني أن مصير حزب الشعوب الديموقراطي سيكون أمام مقصلة القضاء، حيث يشهد للقضاء التركي خلال العقود الماضية حظر العديد من الأحزاب الكردية القومية وكذلك الأحزاب الإسلامية، بما في ذلك محاولة حظر العدالة والتنمية عام 2009، ومن قبل حزبا الرفاه والفضيلة. وعليه، ثمة أسئلة أساسية تطرح نفسها هنا، منها: كيف سيتصرف حزب الشعوب الديموقراطي أمام صورته الجديدة في الشارع التركي؟ وكيف يوفق بين أجندتيه الكردية والتركية؟ وهل يمكن أن يذهب إلى الخيار المسلح في ظل الحرب التركية المتواصلة في المناطق الكردية؟ وماذا لو أقدم القضاء التركي على وضع قادته في السجن وحتى حظر الحزب؟ هذه الأسئلة وغيرها باتت مطروحة بقوة بعد أن وصلت العلاقة بينه وبين حكومة حزب العدالة والتنمية إلى الصدام، ولعل أهم محطات هذا الصدام، إلغاء رئيس الحكومة التركية أحمد داود أوغلو اجتماعاً كان مقرراً مع دميرطاش، وقوله إنه لن يبقى هناك شيء للتباحث معه، ومن ثم رد دميرطاش بأن دورنا في الحياة التركية ليس تقديم الشاي للسلطان وأن الأكراد ذاهبون إلى الحكم الذاتي ولتفعل تركيا ما تشاء. ما سبق يشير إلى قضايا كثيرة على صعيد علاقة تركيا بأكرادها، منها عدم نضج الحل السياسي، وغياب الثقة، واختلاف الأجندة وتناقض الأيديولوجيا، في جملة من التعقيدات المتداخلة تجعل من الصعوبة -إن لم يكن من المستحيل- في ظلها تحقيق السلام الكردي- التركي، كل ذلك في وقت تتجه الأنظار إلى وضع دستور جديد لا يمكن تصوره بعيداً من الاعتراف بالهوية الكردية أو إعادة التعريف بهوية المواطن في تركيا بعد أن نصت الدساتير التركية السابقة على أن كل شخص في تركيا هو تركي بالضرورة! * كاتب سوري