كلما كتبت عن عبدالفتاح أبو مدين أحسست برغبة متتالية في أن أكتب عنه أكثر وأكثر، والكتابة عن أبي وديع هي فاتحة شهية لمعاني المروءة وصدق العمل وصدق التصميم، وهي سيرة تتصل عندي على مدى نصف قرن من الزمان، ابتدأت حين كنت طالباً في المعهد العلمي بعنيزة في المرحلة المتوسطة (1962) وكانت جريدة «الرائد» هي الجريدة الأثيرة لنفسي من بين الجرائد التي تأتي لمكتبة المعهد، وكل الصحف حينها كانت أسبوعية، ولم أكن أعرف سر العلاقة الرمزية بيني وبين الرائد، حتى إذا ما توقفت الرائد مع ظهور نظام المؤسسات وتوقفت الصحف الفردية ظللت أخاتل النظر في أرشيف مكتبة المعهد وكانوا لا يفرطون بالصحف ويحفظونها كمادة وثائقية للصحف والمجلات وبقيت جريدة الرائد مثلما بقيت اليمامة والمنهل والجزيرة، حين كانت مجلات، مثلها مثل الهلال المصرية، والعربي الكويتية، وهذا ما جعل صلتي مع الرائد تتصل. وكنت أحرص على وصل العلاقة معها ولم أبحث عن سبب ذلك، إلى أن تقابلت مع عبدالفتاح أبو مدين حين جمعنا الدكتور غازي عوض الله، وكنت يومها رئيساً لقسم الإعلام في جامعة الملك عبدالعزيز (1979) ولحظتها اكتشفت سر الرائد الجريدة معي حيث رأيت الرائد نفسه، وهي صورة اكتملت يوم الانتخابات الثانية لنادي جدة الأدبي عام 1980 وصار أبو مدين رئيساً للنادي وأنا نائب الرئيس، وبدأ مشوار التجربة العملية مع مواجهة الظروف والتحديات، حيث كنت أقول بمقولة الحداثة، في حين أن أبو مدين ينتمي إلى جيل تراثي عريق، وهو امتداد لمدرسة لن توصف بالحداثية مهما افترضنا من تحويل للمصطلحات، وكان هذا حريا بفك عرى الصداقة، بين فكرين ليسا متطابقين، بخاصة مع الحملات الشرسة ضد الحداثة وضدي شخصياً، وهذا سيحرج رئيس النادي، إن هو قبل هذا المتمرد الثقافي، وسيحرجني أيضاً إن أنا تنازلت أو هادنت في أفكاري. ولكني لم أهادن، وفي المقابل فإن أبو مدين قرر أن يجعل منبر النادي حراً لكل الأصوات من دون وصاية منه، ولهذا تزين المنبر بضيوف محافظين وضيوف حداثيين، واشتعل المنبر محاضرات وندوات وأمسيات، ولم تك المسألة سهلة ولم تمر من دون ثمن، فقد بلغ الشغب الحداثي مبلغه مثلما بلغ الاعتراض التقليدي أعلى درجاته وصار النادي مصدر إزعاج للمسؤول الذي يريد راحة البال، وتم عزل رئيس النادي في ثلاث مناسبات متفرقة، حتى لقد تمت تسمية الدكتور رضا عبيد، مدير الجامعة ليكون رئيساً للنادي، ونشر ذلك في الصحف، ولكن الدكتور رضا اعتذر، وتحرك الوسط الثقافي وخاطب الأمير فيصل بن فهد الذي أبدى تفهماً كبيراً وقرر إلغاء قرار الفصل، وعاد أبو مدين للنادي ليكون أشد حماسة وإصراراً لمواصلة المشوار، وأهم علامات المشوار هو في جمهور النادي حيث ابتدأنا بعدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة فصعد حتى تجاوز الألف، في رحلة شاقة من التعب والكدح، قادها أبو مدين بعزيمة وصدق، وكنت قد كتبت مقالتين شرحت فيهما معنى صناعة الجمهور، ونشرتهما بالعنوان نفسه في صحيفة «الرياض»، وهنا أقول إن نصف قرن من الذاكرة الحيوية مع أبو مدين بكل تحولاتها من ذاكرة ذهنية شبه متخيلة إلى ذاكرة تجارب حية ومتفاعلة هو ما يجعل الكلام عنه يفتح الشهية لمزيد من الكلام عنه، بمثل ما يفتح الشهية على معاني المروءة وقيم العمل.