تتخذ المواجهة بين ايران والمملكة العربية السعودية منحى خطيراً بعد الهجوم الذي تعرضت له سفارة المملكة في طهران وقنصليتها في مشهد. وكانت ارتدادات هذا الهجوم قراراً سعودياً بقطع العلاقات الديبلوماسية مع طهران. ويشكل القرار نقطة البداية لتصعيد لاحق شمل قطع العلاقات التجارية ووقف جميع الرحلات الجوية بين البلدين ومنع السعوديين من السفر الى ايران. استتبع ذلك اتخاذ عدد من الدول العربية قراراً بقطع العلاقات مع ايران كالبحرين والسودان أو تخفيض مستوى العلاقات كالإمارات والكويت وقطر. وجاءت هذه التطورات على خلفية تنفيذ حكم الإعدام في 47 شخصاً في السعودية، من بينهم رجل الدين السعودي الشيعي نمر النمر، بتهمة التحريض ضد النظام والخروج على ولي الأمر. بعد ساعات على تنفيذ الحكم حذّر المرشد علي خامئني من أن إعدام النمر سيتسبب «بمتاعب سياسية للحكم السعودي خلال فترة وجيزة». كما نشر الحرس الثوري الإيراني على صفحته تهديداً مماثلاً للمملكة. وأكدت ردود الفعل السعودية والعربية الغاضبة على حرق السفارة والقنصلية، وجود مخاوف من أن تكون ايران أرادت نقل المواجهة مع المملكة من حرب باردة الى مواجهة ساخنة، يمكن أن تكون لها تداعياتها على أمن الخليج والمنطقة. وأكدت تقارير إعلامية وجود مخاوف أميركية من التدهور السريع في علاقات البلدين، على مسار الحرب ضد «الدولة الإسلامية» في العراق وسورية. لا يستبعد عدد من المراقبين لأجواء التنافس والخصومة بين ايران والمملكة من أن يؤدي التدهور في العلاقات الى تعميق الإنقسام الشيعي - السني وارتفاع منسوب خطر فتنة مذهبية. لن يكون ذلك مفاجئاً في حال حدوثه، خصوصاً بعد أن تحولت الخلافات من المبطن أو السري الى العلني والمكشوف، وذلك على خلفية اتهام المملكة إيران بشن حروب بالوكالة من أجل قلب أنظمة الحكم في اليمن والبحرين وفرض هيمنتها على العراق وسورية ولبنان. في تقييم أولي للموقف الناتج من تدهور العلاقات الإيرانية – السعودية يمكن الاستنتاج أن الرد السعودي على السلوكية الإيرانية بعد تنفيذ حكم الإعدام بالشيخ النمر قد جاء انطلاقاً من ارث العلاقات الثقيل القائم منذ ثورة الخميني عام 1979، إضافة الى تنكّر السلطة الإيرانية لمسؤولياتها الأخلاقية والقانونية في حماية السفارة السعودية. ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها البعثة السعودية في طهران لإعتداء خطير، فقد سبق أن هوجمت السفارة عام 1987 بعد حدوث شغب من الحجاج الإيرانيين في مكةالمكرمة، وأدى ذلك الهجوم الى قطع العلاقات لفترة ثلاث سنوات. ولا يأتي الموقف الإيراني من إعدام النمر من أساس قانوني بل يعبر عن موقف سياسي ينطلق من خلفية مذهبية مع تركيز على إدانة النظام السعودي وعلى شد عصب المجموعات الشيعية العربية الموالية لإيران. ويبدو أن الدول الخليجية لم تعد تخشى فقط زرع بذور الفتنة المذهبية داخل مجتمعاتها بل باتت تتخوف من أن تعمد ايران الى استعمال الإنقسام المذهبي من أجل إقامة مؤسسات وتنظيمات شبه عسكرية ك «قوات بدر» و «الحشد الشعبي» في العراق و «حزب الله» في لبنان. في قراءة أولية لرد الفعل السعودي وتجاوب عدد من الدول العربية مع قرار قطع العلاقات يبدو أن المشكلة القائمة مع ايران ليست سياسية أو حدودية، بل هي أمنية تتعلق بصلب الأمن العربي ككل. وإن منحى الخصومة قد جرى التأسيس له إيرانياً بالعمل على تفكيك المجتمعات العربية من الداخل أو من خلال التحالف الإيراني مع النظامين السوري والعراقي، يضاف الى ذلك تعامل التيار الإيراني المتشدد مع الدول الخليجية على أساس أنها «أنظمة غير شرعية ويجب إسقاطها». كان يمكن لإيران أن تحمي السفارة السعودية وأن تستغل تنفيذ حكم الإعدام للشيخ النمر ديبلوماسياً. وكان من الممكن بل المتوقع أن تحرك طهران حلفاءها في الدول العربية للقيام بتظاهرات احتجاجية تعبيراً عن رفضهم لتنفيذ الحكم. كما كان من الممكن أيضاً أن ترد ايران عسكرياً من خلال زيادة دعمها للحوثيين في اليمن وتقوية قدراتهم القتالية في مواجهة التحالف الذي تقوده المملكة. كما كان يمكن أن ترد عسكرياً من خلال تصعيد عمليات الحرس الثوري والميليشيات الإيرانية و»حزب الله» ضد فصائل المعارضة السورية المدعومة من المملكة، من دون إعلان الخروج عن مندرجات القرار الدولي 2254 وبالتالي الإستمرار في دعم الإجتماع الدولي المقرر عقده في جنيف في الشهر الجاري. كان يمكن أن لا تخرج ردود الفعل الإيرانية عن حدود المواجهة المألوفة مع المملكة فيما لو ترك الأمر لقرار الرئيس حسن روحاني والذي عبر عن موقف عقلاني بوصفه مهاجمي السفارة بالمجرمين، لكن يبدو أن هناك نية واضحة لدى التيار المتشدد لاستثمار الإعدام من أجل تحريك الجماعات الشيعية في دول الخليج لخلق حال من عدم الاستقرار والفوضى. ويأتي التدهور في العلاقات الإيرانية السعودية كنتيجة طبيعية لتراجع الدور الأميركي في المنطقة وعدم توافر إرادة لدى الرئيس باراك اوباما لمعارضة المشروع الإيراني، خصوصاً في مسرحي العمليات السوري والعراقي. كانت الأزمة السورية قد تحولت بعد توقيع الإتفاق النووي مع ايران الى جبهة المواجهة الفعلية بين ايران و «حزب الله» والمجموعات المعارضة لنظام الأسد والمدعومة سعودياً. وجاء انضمام روسيا الى الحرب لإنقاذ الأسد ليزيد من تعقيدات المواجهة. تحاول الإدارة الأميركية نفي الإتهامات العربية بخروجها عن التزاماتها تجاه الدول الخليجية وعن غيابها القيادي والعسكري عن المنطقة، وخصوصاً اضطلاعها بالحفاظ على موازين القوى الإقليمية. وتشكل حرب اليمن خير دليل على ارتفاع مستوى هواجس دول المجلس التعاون الخليجي من هذا الغياب الأميركي، والذي دفعها الى خوض الحرب في اليمن بقرار ذاتي، وهو قرار مخالف للمألوف وللسياسات السابقة للدول الخليجية. وتنذر اجواء انعدام ثقة الدول الخليجية بإدارة أوباما بالإنزلاق نحو مزيد من المواجهات مع ايران، ويتطلب تصحيح هذا الأمر اجراء تعديل اساسي في الإستراتيجية الأميركية وممارسة الضغوط على ايران، خصوصاً في سورية. ولا بد من العمل على اقناع الدول الخليجية بأن الولاياتالمتحدة مستمرة في التزاماتها للحفاظ على أمن الخليج واستقراره. في هذا السياق لا بد من التساؤل عن إمكانية أن تؤدي المواجهة بين الرياضوطهران الى تعطيل الجهود الدولية لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية أو الى تراجع مستوى الحرب مع «الدولة الإسلامية»؟ يؤكد وزير الخارجية السعودي هنا استمرار موقف المملكة الداعم لتسوية النزاع السوري استناداً الى مبادئ «جنيف-1». في النهاية لا خوف من الإنزلاق نحو مواجهة عسكرية مباشرة في المستوى المنظور، وستعمل الرياضوطهران على تحاشي حصول أي إحتكاك عسكري مباشر بينهما، لكن يبقى من الضروري التنبه دائماً الى أن أجواء التصعيد والاستقطاب ستصب في مصلحة «داعش» والمجموعات الإرهابية، وهو الأمر الذي لن يخدم الأمن والإستقرار في المنطقة. * باحث لبناني في الشؤون الاستراتيجية