لجأت أنفال (15سنة) الى صنعاء لتقيم عند خالتها وتلتحق بمدرسة ثانوية خاصة. ونزح شقيقها إلياس (14 سنة) الى عدن للغرض نفسه، أي «عدم تضييع عام دراسي». بينما بقي الوالدان في مدينة تعز (270 كم) التي تشهد قتالاً مستمراً منذ آذار (مارس) 2015 ما أدى الى تعطل الدراسة فيها للعام الثاني على التوالي. وتبدو طالبة الصف الأول الثانوي أنفال وشقيقها محظوظين، ليس فقط لوجود أقارب لهما في مناطق شبه آمنة، بل لأن عائلتهما لا تصنف من قبل أطراف الصراع كعدو. وخلافاً لموجات الصراع السابقة، ضاعفت الحرب الأهلية التي تشهدها البلاد على خلفية انقلاب مسلح تنفذه منذ أيلول (سبتمبر) 2014، ميليشيا الحوثيين والرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، من درجة التنافر بين اليمنيين وعمقت بقوة الفرز على أساس جهوي ومذهبي، ما أدى الى انحسار الشعور بالأمان. «من لم يمت بالرصاص مات بسموم الكراهية»، تقول الطالبة في جامعة صنعاء بثينة عبد الرحمن (22 عاماً)، التي قررت قطع دراستها والانتقال مع أسرتها إلى مسقط رأس الأسرة في تعز، وذلك إثر حملة اعتقالات شنتها الميليشيا الانقلابية واستهدفت عناصر في حزب تجمع الإصلاح الإسلامي، الخصم المذهبي والسياسي لها. وكان الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي ورئيس حكومته خالد بحاح تمكنا مطلع العام الماضي من الإفلات من قبضة الحوثيين الذين وضعوهما تحت الإقامة الجبرية والفرار إلى عدن. وفي أيار (مايو) الماضي، هربت أسرة بشير عبدالغني (21 سنة) من عدن إلى صنعاء، خوفاً من الانتقام، بسبب تصنيف رب الأسرة بأنه «عفاشي»، أي موال للرئيس المخلوع علي عبدالله صالح. وفي الشمال كما في الجنوب تعرض مدنيون عاديون لمضايقات واعتداءات بتهمة موالاة أي من الجماعات المتصارعة. وعلى رغم تحرير معظم مناطق الجنوب من سيطرة الحوثيين، إلا أن وصول شماليين إلى الجنوب لا يزال يواجه بقيود كثيرة. ويقلل تفشي الكراهية وامتداد القتال الى القرى، من فرص هرب المدنيين من النزاع الأعنف، فيما صارت الانتماءات الأولية ملاذاً وحيداً حتى لأولئك الذين يحملون أفكاراً متجاوزة للهويات. وترى بثينة في انسداد أفق التعايش الوطني نتيجة حتمية ل «ابتلاع الدولة اليمنية من قبل ميليشيا طائفية لا ترى غير نفسها ولا تؤمن بغير القوة». ويرجع باحثون استمرار دورات شتات اليمنيين واغترابهم في أرجاء المعمورة إلى النزاعات المسلحة والاستبداد السياسي والفقر. «جنوبيون في صنعاء شماليون في عدن»، هذا ما كتبه في سبعينات القرن العشرين الشاعر اليمني الراحل عبد الله البردوني واصفاً حال شتات الأسر اليمنية وتمزقها إبان تشطير اليمن. وقبله كتب شاعر مجهول قصيدة «البالة»، التي تحولت الى أغنية شعبية تسرد معاناة اليمنيين وهجرتهم في الأصقاع والبلدان هرباً من الفقر والظلم. وعلى رغم تحقيق الوحدة بين الشمال والجنوب في 1990 وانتهاج اليمن النظام الديموقراطي، بات النزوح الداخلي واللجوء الى دول عربية وأجنبية اكثر صعوبة من ذي قبل. وصار زمن انقسام اليمن إلى دولتين بمثابة «الفردوس المفقود» في نظر المتضررين، فخلال القرن العشرين كان نشوب نزاع مسلح في أي من الدولتين يحول الدولة الأخرى الى ملجأ للمتضررين من الصراع، سواء كانوا مواطنين عاديين أو سياسيين. ويعد الرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي والرئيس الجنوبي السابق علي ناصر محمد، من أبرز الشخصيات التي هربت إلى الشمال عقب اندلاع مقتلة 13 يناير 1986 في الجنوب، كما لجأ مواطنون وقيادات سياسية وعسكرية شمالية إلى الجنوب هرباً من التسلط والمطاردة. وصار واضحا أن أكثر المعاناة الناجمة عن النزاعات تقع غالباً على أبناء المدن الأصليين والمولدين والفقراء، ولجأ كثير من المولدين اليمنيين إلى «الوطن الأصلي» لأمهاتهم، مثل الصومال وأثيوبيا، فيما اتجه بعض سكان المدن إلى بلدان أخرى. ويرشح من أحاديث أجرتها «الحياة» عبر الإنترنت مع شبان لجأوا إلى دول عربية وأجنبية عدم استقرار أوضاعهم، خصوصاً لجهة الحصول على عمل وقبولهم رسمياً كلاجئين. وتتفاوت المعاناة بحسب الدولة المضيفة والمهارات. ويذكر محمود السامعي الذي لجأ الى ماليزيا، أنه لم يحصل بعد على بطاقة لاجئ، مشيراً إلى صعوبات كثيرة في العيش والتأقلم. فيما يبحث خالد شعنون (35 عاماً) الذي لجأ إلى الصومال، عن صحيفة أو مجلة عربية يعمل لها مصوراً في الصومال. وعلى رغم عدم حصول الروائي علي المقري على وثيقة لجوء بعد، لكن مجرد وصوله إلى باريس أشعره بأنه «ولد من جديد» وفق قوله. ولجأ مئات الكتاب والصحافيين والأطباء وأساتذة الجامعات إلى دول عربية وأجنبية هرباً من الحرب، لكن غالبيتهم لم تحصل بعد على بطاقة لاجئ، خصوصاً مع اتساع المخاوف الغربية من اللاجئين عقب الهجمات الإرهابية الأخيرة التي تعرضت لها باريس. صعوبة مواصلة التعليم تشكل قاسماً مشتركاً لكثير من النازحين، داخلياً وخارجياً. وتقول سوسن فيصل (19 عاماً) التي لجأت مع أسرتها إلى المملكة العربية السعودية، إنها لم تتمكن من أداء اختبار الثانوية العامة الذي أجري في عدن نهاية العام الماضي، ويبدو أنها لن تتمكن هذا العام أيضاً من أداء الاختبار بسبب عدم استقرار الأوضاع الأمنية، حالها في ذلك حال كثير من الطلاب اليمنيين الذين يخسرون عاماً تلو الآخر بسبب النزاع.