هناك كتب تستقرّ في الذاكرة على رغم أنها تبدو نخبويّة موَجّهةً إلى نوع محدد من القراء، أو لكونها شديدة التخصص تحتاج تركيزاً شديداً من قارئها. ولعلها لهذين السببين تُنسى، أو يشحبُ أثرها بمرور الزمن. لكن نفض غبار الزمن عنها سرعان ما ينبّهنا إلى الأهمية غير العاديّة التي تحملها هذه الكتب، والثراء المعرفي الذي تنطوي عليه. من بين هذه الكتب التي قرأتها منذ نحو ثلاثين سنة، وأداوم على الرجوع إليها واستبصار قيمتها المعرفية في الكشف عن اتجاهات القصيدة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين كتاب الشاعر والناقد اللبناني الراحل كمال خير بك (1935- 1980) «حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر» الذي كُتب بالفرنسية وصدرت ترجمته إلى العربية عام 1982. وعلى حدّ علمي، فإن طبعةً جديدة من هذا الكتاب المشغول بعناية فائقة، والمشبوب اللغة، على رغم كونه أطروحة علمية لنيل درجة الدكتوراه في الأدب العربي، لم تصدر منذ نُشرت طبعته الأولى. فهو يحتاج أن يُنفض الغبار عنه ويُستعاد مرةً أخرى من جانب أصدقاء كمال خير بك الذي قُتل أثناء الحرب اللبنانية فخسرنا شاعراً مرهفاً وباحثاً وناقداً متميزاً. يكتسب كتاب كمال خير بك أهميته الأساسية من كونه البحث الأول الذي يتناول ظاهرة «القصيدة العربية الجديدة» من منظور يحاول، أن يحقق بحثاً شاملاً يضيء الظاهرة، ويحاول القبض على سماتها وتفرّدها، عبر التفكيك وإعادة التركيب. ويكتسب أهميته الإضافيّة، على رغم أنه موجّه إلى قطاع ثقافي غربي مهتم بالدراسات العربية، بعد ترجمته إلى العربية. فهو، بعد أن أصبح جزءاً من المُدوّنة النقدية، يخاطب الحقل الثقافي العربي الذي كُتبت هذه القراءة التفصيلية عنه، وعن ملابسات استقباله القصيدة العربية الجديدة. ويشير خير بك إلى السبب «الباطني»، «الشخصيّ»، الذي دفعه إلى اختيار «الشعر العربي الحديث» مجالاً لبحثه الأكاديميّ الذي قدّمه إلى جامعة جنيف عام 1972 كمشروع لنيل درجة الدكتوراه، قائلاً: «مؤكد أن كوني عايشت ولادة هذا الشعر وتطوره، وساهمت في جانب من خطواته الأولى، لا يشكّل إلا السبب «الشخصيّ» للاختيار؛ وهو السبب الذي يظل أقلّ تبريراً بالتأكيد». لقد كان وجود كمال خير بك ضمن تيار مجلة «شعر»، الذي يركّز عليه هذا البحث بشكل أساسيّ، دافعاً لاختيار هذا التيار الذي بدا الباحث أكثر قدرة على تحديد أطره ومراجعه ورسالته منه على تحديد الأطر والمراجع والرسالة الشعرية الخاصّة بباقي التيارات التي أشار إليها إشارات عابرة. فهو يقدّم، مشروعاً لدراسة القصيدة العربية الجديدة عبر اختيار محدد لتيار مجلة شعر، مشروعاً لقراءة التحوّلات الشعرية والثقافية والاجتماعية في حقل الإنتاج الشعري، عبر دراسة تركيبيّة لمجمل الإنتاج الشعري الذي احتضنته مجلة «شعر»، أو ما كان لصيقاً بها، أو قريباً من تيارها. إن مناقشة هذا المشروع الطموح تنبع من توقفه عند فترة زمنية معيّنة، يعتبرها الباحث لحظةً مفصليّة في حركة الشعر العربي المعاصر، وهي موتُ السيّاب الذي ترافق مع توقف مجلة «شعر» عام 1964. ولعلّ التقاط خير بك، في تلك الفترة المبكّرة زمنيّاً، الأهميّة المركزية للمشروع السيّابيّ في حركة الحداثة الشعرية العربية، هو الذي يجعل من استعادة كتابه مسألة ضرورية لكي تطّلع الأجيال الجديدة من النقاد العرب على عمل مرجعيّ لا غنى عنه في نقد الشعر المعاصر.