قرار الرئيس باراك أوباما الانسحاب من العراق منتصف عام 2010 تطلب تغييراً سياسياً وثقافياً واقتصادياً كبيراً في الولاياتالمتحدة. ومثل ذلك وأكثر في بلاد الرافدين التي ما زالت، بعد ست سنوات من الاحتلال معرضة للتفكك وللانهيار الأمني وعودة الاحتراب الطائفي والمذهبي. أميركا عام 2009 ليست أميركا بعد أحداث أيلول (سبتمبر) مباشرة حين بدأت القوة العظمى الوحيدة في العالم الثأر، والحروب الاستباقية لتغيير الانظمة ونقل المعركة إلى «أرض العدو». أميركا اليوم تسعى إلى الانسحاب من العراق. لكن خروجها ليس اقل خطرا من الكوارث التي حلت بالعراق والعراقيين. وتزامنت وعود أوباما للعراقيين، مع بدء نهوض العراق من سنوات الاقتتال الطائفي، والقتل المنهجي على الهوية الذي راح ضحيته حوالي 5 ملايين، بين قتيل وجريح ومهجّر، فكانت استراتيجية وقف التدهور التي بدأت عام 2007 وساهمت فيها الولاياتالمتحدة مباشرة، عبر اعادة احياء التجنيد العشائري والفرز المناطقي والميليشيات المحلية. وتطلّب الأمر تحقيق الفصل بين المختلفين طائفيا قبل اقرار هدنة بينهم، أساسها «توازن الرعب». واستغرق تطبيق هذه الهدنة أربع سنوات، قبل أن يدرك الأميركيون ان الامن في بلد شديد التعقيد، تتداخل فيه اعتبارات قومية وطائفية ودينية وتاريخية وجغرافية، لا يتحقق بالحرب على «المتمردين» فحسب، وبرزت منذ ذلك الحين ظاهرة تولية زعماء محليين شؤون مناطقهم، بما في ذلك عقد تفاهمات مع جيرانهم في المناطق الاخرى. وأدرك الأميركيون عام 2007 أن الحوار يتطلب توازناً في القوة بين الفرقاء، فدفعوا الحكومة إلى نزع سلاح ميليشيات ووفروه بكثافة لخصومهم. سلحوا العشائر وعقدوا اتفاقات مع الجماعات المسلحة السنّية. ضغطوا على الزعماء الشيعة لشن عمليات مسلحة على الميليشيات المدعومة من ايران، عملوا على تأجيل الصراعات القومية العربية - الكردية - التركمانية حول كركوك والمناطق المتنازع عليها والنفط. هذا ما ساعد في وقف التدهور. لكنه أسس لتوازن قلق قابل للانفجار في أي لحظة. وهذا ما أتاح لرئيس الوزراء نوري المالكي الظهور قوياً لا يتردد في ضرب حلفائه لتكريس مفهوم «دولة القانون» فحقق نقلة نوعية على المستوى الأمني عام 2008. والمالكي لم يكن يرغب، منذ البداية، بأن يتحول الى رجل أميركا في العراق. ولم يكن يرغب بأن يتحول الى رجل ايران أيضاً، وأتاحت له التغيرات في توجهات الرأي العام في الولاياتالمتحدة نشر الأمل لدى العراقيين بالأمن والسلم، عبر مواجهات دامية مع ميليشيات شيعية وسنية، ما وسع جبهة مناصريه حتى باتت اكبر من حزبه «الدعوة»، فطرح مفهوم «دولة القانون» إطاراً يعلو على الاعتبارات الطائفية والعرقية. وحوّل حكومته سريعاً الى وريث لتجربة إحياء دور العشائر التي اغنتها الاستراتيجية الاميركية فكرس قوة العشيرة في مواجهة الحزب. أما ملف المصالحة الوطنية الذي عرقل على امتداد السنوات الماضية باعتباره غير جدي، بعد مؤتمرات شكلية عقدت في بغداد وعدد من الدول، فحاول المالكي استثماره أخيراً بفتح خطوط اتصال مع معارضين مسلحين وبعثيين وضباط في الجيش السابق، ليتهمه حلفاؤه الشيعة بمحاولة اعادة رموز النظام السابق الى الحكم. وعندما أظهر براغماتية سياسية، ليتخلص من ضغوط حلفائه، وأصدر بياناً تراجع فيه عن دعوته إلى المصالحة مع البعثيين، أثار موقفه شكوك أنصار المصالحة ومناهضيها، فاعتبر البعثيون دعوته «مؤامرة تهدف الى كشف بعثيي الداخل». وأشار حلفاؤه الى ان البيان «تراجع مرحلي»، فيما قال السياسي صالح المطلك ان مواقفه «متذبذبة وتحت الضغوط ومن المستحيل التحالف معه». زعامة المالكي تخيف خصومه الذين تكتلوا ضده، وبعضهم من حلفائه، وتخيف الديموقراطيين في بلد جعلته فوضى سنوات الاحتلال مهيئاً اكثر من ذي قبل لإعادة انتاج الديكتاتورية. الانسحاب الأميركي ليس أقل صعوبة من الاحتلال نفسه، إذا أخذنا احتمال تدهور الوضع الأمني الذي يتفق الجميع على هشاشته في الاعتبار، فتراجع معدلات العنف بين 40 و80 في المئة على امتداد عام 2008 والأشهر الأولى لعام 2009 ليس أكيداً، ففي الشهر الأخير قتل عشرات العراقيين في ما اعتبر «نكسة امنية». ويرى مراقبون أن خطورة الانسحاب تكمن في أنه سيكون على أساس التقدم في الملف الأمني والتركيز عليه خلال العامين الماضيين، إذ لم تكن ترافقه معالجات جوهرية للعملية السياسية، وسط اشكالات دستورية وتخندقات حزبية وطائفية وعرقية وتداخلات اقليمية. وسيخلف الاحتلال بعد الانسحاب تضارباً سياسياً بين جبهات سنية - شيعية - كردية وأخرى سنية - سنية وشيعية - شيعية، والى حد ما كردية - كردية، فضلاً عن نظام سياسي غير مستقر تتنازعه دعوات إلى إقامة حكومة مركزية قوية، وسلطات محلية قوية، وهذا ليس مثار خلاف بين الاكراد والمالكي فحسب، بل هو جوهر الخلاف بين الأخير وأحد أبرز حلفائه الشيعة «المجلس الاسلامي الاعلى». وإلى جانب الارباك السياسي، والقطيعة بين اطراف يمتلك كل منها القدرة على قلب الطاولة الامنية، فإن ملفات اعادة الاعمار وانهاء مأساة المهجرين والمعتقلين وذوي الضحايا، مستمرة مع تعاظم سطوة الفساد الاداري والمالي الأكبر عالمياً واستمرار ثقافة التجنيد الطائفي. الصورة: عن موقع كولدج بابليشر.كوم