جالسٌ في مكتبك. الاجتماع ينتظرك. رجل الشاي العجوز يطرق الباب، وكعادته يدخل بخطوته الهادئة من دون أن تأذن له: «صباح الخير». يحمل الصينية الصغيرة. يضع أمامك فنجان القهوة وكأس الماء، وتتوقعه ينسحب كما في كل مرة، حتى من دون أن ترمي عليه كلمة شكرٍ. ترفع عينيك إليه، فتجده ينظر إليك: «ابني..»حطّت كلمته بقربك. بقيت ساكتاً تنتظره يفصح عما يريد:»ولدي الثاني...» بلع ريقه، وتستحثه قلت: «تفضل» «يدرس في الجامعة، في كلية الهندسة». ليس لديك وقت لسماع حكايات سخيفة. «في السنة الثانية، ولد ذكي ومتفوق، الجميع يشهد بذلك». «يا أخي قل ما تريد،» تخاطب نفسك. «الاجتماع ينتظرني، وكذلك طلبات المدير العام الجديد العاجلة». لم يرق المدير الجديد لك منذ رأيته أول مرة. «أكمل السنة الأولى بتفوق. ولد نبيه». تكلّم حاملاً الصينية التي لا تفارقه. شيء من الاستغراب يأتي إليك: «لماذا جاء ليتكلم اليوم؟ سنوات وهو يعمل بصمت.» أنت مدير إدارة شؤون الموظفين، لا تطيق مخالطة العمال البائسين. ما أن تقترب منهم حتى يبدأوا بالتعود عليك أكثر مما يجب، وبتجاوز حدودهم، وقد يثقلون عليك بطلباتهم التي لا تنتهي. «هذه صورته». يمدّ يده نحوك بصورة ملوّنة لشاب بنظرة متوقدة وتسريحة شعر مرتبة. «أكبر أبنائي يعمل مساعد نجار، لكن ولدي هذا يدرس في كلية الهندسة». «لدي اجتماع بعد قليل، تكلم بسرعة». قلت له والضيق يعلو نبرتك. شيء من خجل وارتباك ظهر على وجهه. تخيلت أنه يتصنع نظرة انكسار. «يمكنني المجيء في وقت آخر». بعث يخاطبك. ولأنك لم تردّ عليه ظل واقفاً، فاستحثّه صوتك: «تفضل، تكلم». «هو في السنة الثانية...» قاطعته قبل أن يكمل: «فهمت أنه في السنة الثانية في كلية الهندسة». قلت جملتك لكي تدفع به للإفصاح عما يريد. لكنه سكت وعادت نظرة الانكسار لتصبغ وجهه. شعرت كأن فكّه السفلي تهدل قليلاً. «يا الله.» أسررت نفسك، وأكملت: «الاجتماع ينتظرني وهذا الرجل العجوز جاء ليتسمر أمامي». «آسف أخذت من وقتك». «تفضل تكلم». «كما قلت لك؛ ولدي متفوق أكمل السنة الثانية، ودفعتُ أنا القسط الأول من مصاريف السنة الثالثة». سكت لبرهة قبل يكمل قائلاً:»أنا احرم نفسي من كل شيء لأرسل له وأخوته كل ما يمكنني». دار ببالك: «ولده في حاجة لمساعدة مالية ليكمل دراسته الجامعية». «أنت محتاج كم؟» سألته بنفاد صبر واضح، وقد طفح الضيق بنبرة صوتك. ظل واقفاً حاملاً صينيته الصغيرة ناظراً إليك. «ليست النقود». بعث بجملته ونظرة الانكسار تعلو وجهه. لن تستطيع احتمال بقائه. المدير العام الجديد سيُعنّفك إن أنت لم تنجز ما طلبه منك. سأعطيه ما تيسّر وأطرده. أرسلت يدك لجيبك. راح ينظر إليك بنظرة لم تفهمها. وتهمس لنفسك قلت: «سيفرح الآن، جاءت لحظة العطاء». استخرجت من جيبك بعض الأوراق النقدية. «لن أعطيه عشرة دنانير، أظنه يأخذ من جميع الموظفين. يكفيه خمسة لكي يتركني بحالي». مددت يدك له بالورقة، لكنه انسحب إلى الخلف قليلاً. دار ببالك أنه يرفض المبلغ. وهمست لنفسك: «شحاذ وقليل أدب». جاءت عيناك في عينيه. شعرت به يضمّ الصينية لصدره ويهزُّ رأسه مؤكداً رمى عليك: «مات ولدي، تناثرت أجزاء جسده قرب مدخل الجامعة في التفجير الأخير». اهتزَّ قلبك في صدرك. ارتخت ذراعك فانزلقت الورقة من بين أصابعك. تمرجحت في الهواء قبل أن تستقر عند قدم الرجل العجوز. وكما دخل بهدوء استدار ليخرج من دون أن ينظر إليك. أسندت ظهرك إلى الكرسي. شعرت بالمكان صار أضيق، ووجدت نفسك تكره حضور الاجتماع.