لكل دين عبقريته الخاصة، أو بصيرته المميزة في بحثه عن معنى أو عن قيمة كلية تحقق وجوده في التاريخ، إذ تنبع تلك العبقرية من التحديات التي يواجهها، والغايات التي يستهدفها، وبلا شك من الدور التاريخي المنوط به. ولعله من البدهي أن بين الأديان السماوية الثلاثة فروقاً موضعية لا بد من ملاحظتها، لا تنفي كون تلك الأديان «توحيدية» أو حتى كونها شرائع ثلاثاً للدين التوحيدي نفسه، لكنها أيضاً لا تطمس تلك السياقات المتباينة التي تلهم كل منها فحوى عبقريته الخاصة. فاليهودية، مثلاً، تمثلت عبقريتها الخاصة في كونها ثورة كبرى ضد الوثنية، في مرحلة باكرة نوعاً ما من التاريخ. وبعد عثرات وانتكاسات لدين إبراهيم الحنيف، ولشريعة موسى الأولى، اتجهت اليهود إلى التوحيد منذ عصر إشعيا الثاني نهاية القرن السادس قبل الميلاد، لكنها في المقابل لم تكن سوى دين مغلق أشبه بعصبية محصورة في أبناء إسرائيل بالدم وتحديداً بالميلاد من الأم، لا يسعى إلى الانتشار، ولا يدعي العالمية في أي شكل أو قدر إذ لم يتصور الإسرائيليون أنفسهم إخوة للإنسانية كلها، كما فعل الإسلام، وجاهد نبيه تبليغاً لرسالته إلى الناس... كل الناس. أو كما فهم بولس والحواريون دعوة عيسى، كبشارة للإنسانية كلها لا اليهود وحدهم. في هذا السياق الذي انتفت فيه رغبة اليهود في التبشير بدينهم، كان مفترضاً أن تنتفي كذلك حاجتهم لاستخدام السيف في الفتح ونشر الدين، وتبقى حاجتهم إليه للدفاع عن أنفسهم فقط، كوطن أو مجتمع أو دولة. وعلى رغم ذلك فإن الأنبياء بعد موسى عليه السلام كوّنوا الجيوش وخاضوا حروباً هجومية، وفاخروا بانتصاراتهم، وتألموا لهزائمهم، كما في حروب يشوع، وفي تاريخ الأنبياء - الملوك، خصوصاً داود وسليمان في حروبهما مع الكنعانيين، حتى أنهم قتلوا من أهل مدينتين، كما يذكر ول ديورانت 12000 رجلا وسبوا من تبقى من نسائهم. وكان هذا القتل كما تقول نصوص التوراة «فريضة الشريعة التي أمر بها الرب موسى» و «زكاة للرب» الذي خاطب الشعب اليهودي قائلاً: «لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك. إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعباً أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض... مباركاً تكون فوق جميع الشعوب وتأكل كل الشعوب الذين الرب إلهك يدفعهم إليك... لا تشفق عيناك عليهم» (تثنية، 7: 6، 7: 14 - 16). لقد مارس اليهود إذاً عنفاً مقدساً نسبوه إلى الرب، من دون حاجة ظاهرة، أو رسالة واضحة، وبغير دافع موضوعي، أللهم إلا من تعصب للذات والعقيدة القبلية، ومن توحش الروح الإنسانية في هذا الزمان. أما المسيحية فتمثلت عبقريتها الخاصة في روحانيتها الشديدة، وتوجهها نحو «العالمية» تجاوزاً لأفق المسيحية - اليهودية الضيق، خصوصاً مع تبشير القديس بولس الذي نسخ كثيراً من أحكام الشريعة اليهودية، وأذعن له الحواريون الاثنا عشر بإعفاء الأتباع الجدد في ديار الوثنية من عملية الختان. هذه النزعة العالمية التي منحها بولس للمسيحية ربما اقتضت استخدام السيف لتحييد قوة السلاح لدى المخالفين، ومنح الضمير الإنساني المقهور في هذا الزمان، حرية الاختيار. كان عيسى يتحدث كثيراً عن العدل، وعن السلام، وعن شوق النفس إلي الوصول إلي سماء الأب، كما كان يتحدث عن التوكل والصبر... لكنه لم يصرّح قط بوجوب الثورة على الظلم، فهو القائل: إذ ضربك شخص على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، وهو قانون لا يتفق وحياة الناس القائمة على الأنانية والظلم، ويؤدي تدريجاً بالإنسان إلى قبول الهوان، وقد أخذ به عيسى ثلاثة أعوام تقريباً هي مدة رسالته التي كانت حياة محن وآلام تحملها من معاصريه اليهود، وانتهت بصلبه ثم قيامته، وفي اعتقاد المسلمين برفعه إلى السماء. وبين نزوع المسيح المفرط إلى السلم المفرط، ونزوع بولس إلى العالمية، أخذت المسيحية طابع ديانة روحية وإنسانية. غير أن انقلاباً كبيراً حدث في تاريخ المسيحية بعد انتصارها على الوثنية، وتبني الإمبراطورية الرومانية لها زمن قسطنطين، إذ قويت شوكتهم وأنزلوا بخصومهم الوثنيين من ألوان البطش والقسوة ما كانوا أنزلوه بهم من قبل، ولم يشفع فيهم سماحة المسيحية ولا ما دعا إليه المسيح عليه السلام من الحلم والصفح. كما امتد نفوذ الكنيسة، واكتسبت منحى تدخلياً مفرطاً على حساب الدولة نفسها مع الولوج إلى الأفق الزمني للعصور الوسطى، حتى انقلبت تماماً على الروحانية المسيحية التي طالما رنت إلى ملكوت السماء، وزهدت في ملكوت الأرض. ولا يوجد ما يعبر عن هذا التحول أفضل من ذلك البيان الذي أصدره البابا إنوسنت الثالث عام 1066م متضمناً المبادئ الأساسية الستة لعصمة البابا وهي: أن البابا هو الذي يضع القوانين الجديدة. وأن كل أمراء الأرض يقبلون قدميه. وأنه مقدس، وأنه لا يذنب ولا يأثم. وأنه ليس لأحد أن يحاكم البابا. وأن كل فرد يحتمي بالبابا لا يمكن الحكم عليه. وأن البابا لا يخطئ ولا يمكن أن يخطئ. وبعد أقل من عقد وصلت البابوية إلى حالة الاستعلاء الكامل على الدولة مع «حركة الإصلاح الغريغوري» - نسبة إلى البابا غريغوري السابع - في سياق النزاع حول أو ضد «التقليد العلماني» الذي كان يضمن سيطرة العلمانيين على الكنيسة. وفي سنة 1075، كان الإمبراطور الألماني هنري الرابع أقوى حاكم في أوروبا، ومع هذا فإن البابا غريغوري لم يتورع عن أن يطلب منه أن يوقف فوراً نظام التقليد العلماني الذي كان يتيح له فرصة التحكم في تعيين كبار رجال الكنيسة في مملكته، مهدداً بخلعه إذا لم يمتثل للمرسوم الذي أصدره. وعندما تمرد الإمبراطور على الكنيسة أصدر البابا قراراً بحرمانه، فاضطر سنة 1077 لأن يذهب إلى قرية - قلعة كانوسا، حيث كان البابا، وأن يقف على بابه ثلاثة أيام قبل أن يسمح له بالمثول بين يديه ويظفر بالصفح عنه. وهنا بدا التحول عاصفاً، فبدلاً من قول المسيح «مملكتي ليست في هذا العالم»، ومن رفضه أن يتولى قسمة ميراث، ومن جلوسه على الأرض لغسل أقدام المصابين بالجذام... أصبح خليفته على الكرسي الرسولي يحكم ممالك العالم ويرأس الملوك ويطالب الجميع بتقبيل قدميه. لقد انقلبت المسيحية على الروحية المفرطة، لمصلحة المادية الصارمة، وتحولت عن الزهد المتقشف إلى الطمع الجارف، وتحركت بعيداً من مملكة السماء لتُزرع في مملكة الأرض، وقد كان الأمر كله محض تأويل لآباء الكنيسة، ومن ثم فهو عمل التاريخ الذي لعب دوره كاملاً في تطور المسيحية من قمة التسامح واللاعنف، إلى ذروة السيطرة في الداخل، والعدوانية في الخارج كما بدا الأمر سريعاً في الحروب الصليبية ضد العالم الإسلامي، بعد واقعة كانوسا بأقل من عقدين، أو كما سيكون عليه الأمر، بعد واقعة كانوسا بخمسة قرون، في حروب الإصلاح الديني التي طحنت أوروبا، مطلع العصور الحديثة. ولا نذكر هنا الحروب الاستعمارية الأوروبية ضد العالم أجمع وصولاً إلى الحربين العالميتين، لأننا نعدهما حروب الحداثة وليس حروب المسيحية. وأما الإسلام فتمثلت عبقريته الخاصة في جمعه التوفيقي بين الدين والدنيا، حيث ظهر في عالم بدوي بين قبائل تعيش على العرف لا القانون، ولا يمكن أن تترك بغير تشريع. ومن ثم لم يكن الإسلام ديناً مجرداً يحبذ مبادئ اللاعنف على منوال تعاليم عيسى أو الفلسفة الهندية خصوصاً البوذية، بل كرس نفسه «ديناً شاملاً» لا يكتفي بتقرير مبادئ أخلاقية، ثم الانسحاب من التاريخ، وإنما يضع قوانين تشريعية، وسنناً مجتمعية، ويبغي أهدافاً سياسية لمواجهة الفوضى والعبثية ومقاومة الشر والطغيان. لقد كان الإسلام إذاً، ويظل، مشروعاً لخلاص التاريخ لا الروح فقط، من الانحطاط والفوضى الحتمية التي تنجم تلقائياً عن غياب قيم العدالة والمساواة، ومن ثم كان عليه أن يشرع وأن يحمي شرائعه بأن يقر القتال، بل ويأمر به تحقيقاً للعدل بدلاً من الرضوخ للمعاناة والظلم، فيقول تعالى شأنه: «كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم...» (البقرة: 216)، ولو أن الرسول أخذ بمبدأ عيسى المفرط في السلم ما كان الإسلام قد تعدى المدينة، ولا دخلت فيه مكة ولا توحدت القبائل العربية تحت لوائه، ولما أصبح ديناً عالمياً أو صاغ حضارة إنسانية كبرى. ومن ثم، فعندما يطرح الجهاد الإسلامي على أنه المقابل الإسلامي للحروب الصليبية، ويُنظر إلى اللفظين على أنهما مترادفين، كما ادعى المفكر الأميركي الراحل صامويل هانتنغتون، فليس ذلك إلا من قبيل القياس الخاطئ. ولعل تشابهاً ظاهرياً يجمعهما من زاوية أن كليهما أُعلن وشُن على أنه حرب مقدسة من أجل نشر العقيدة الصحيحة. ولكن، ثمة تناقض أصيل بينهما، فالحروب الصليبية تعد تطوراً متأخراً في التاريخ المسيحي، وابتعاداً جوهرياً من القيم المثالية كما ترسمها الأناجيل، أي أنها انحراف عن أصل نقي، فالمسيحيون إذاً - ولا نقول المسيحية - حاربوا لا عن تصور رسالي عميق، بل حاربوا حينما تصوروا قدرتهم على العدوان، من دون أن يحرموا أنفسهم من رفع لافتات أخلاقية دينية أو فلسفية لعدوانهم سواء في زمن الحرب الصليبية عندما كان الدين فاعلاً، أو في زمن الحداثة عندما صارت دعوى تحضير العالم جاذبة. وربما يفسر لنا هذا الفهم مفارقة تاريخية هي أن الجماعة المسيحية لم تعلن الحرب الصليبية على العالم الإسلامي عندما كانت تلاقي الهزائم أمامه، وتفقد أراضيها لمصلحته، بل بدأتها بعد أن كان هذا العالم قد توقف عملياً عن التمدد والفتح بقرنين على الأقل، أي في اللحظة نفسها التي ظنت فيها أنها قادرة على النيل منه. أما الجهاد الإسلامي، فهو مفهوم بنيوي في صلب دين عالمي شامل يسعى إلى إعادة تأسيس التاريخ، أي أنه بمثابة تجسيد واقعي مباشر لأصل، ربما لا يتمتع بالروحانية المسيحية المفرطة، لكنه يتسم بالواقعية والشمول. لذا، فقد حارب المسلمون من موقف مبدئي توازني، كان حاضراً منذ البداية سواء في النص القرآني، أو في حياة النبي وأفعال صحابته وخلفائه الأولين الذين اشتبكوا مع الواقع العربي الوثني هادفين إلى تغييره، وبدلاً من أن يكون الإسلام ديناً سلبياً، أو يكون محمد نبياً زاهداً، يقصر إيمانه على نفسه، ويبقى خلاصه شأناً لذاته، ويدير الخد الآخر للظالمين، كان هو الدين الذي قاتل الطغيان والظلم والشرك لكي يصلح مسار التاريخ نحو الأفضل، ويحقق الخلاص للجميع. والعجيب هنا أن يطلب مفكرون غربيون من نبي الإسلام أن يظل بمكة، ويتقبل اضطهاد قريش وظلمها لأتباعه، لأن النبي في رأيهم ينبغي أن يتحمل إلى أقصى حد الاضطهاد والظلم والأذى الشديد، وأن يصبر كما صبر عيسى متحملاً الآلام إلى النهاية من دون أن ينتصر دينه في حياته، بينما انتصر محمد في حياته، صانعاً أمة آمنت بوحدانية الله ووحدة الضمير الإنساني، ومضت عن إيمان، لا يماثله إيمان، في إبلاغه إلى كل أمم العالم وشعوبه. أما الأعجب فهو وصم هذه الدور الحضاري بالدموية، واختصار الإسلام في العنف، كدين تخلى عن الروحانية الحقة في مواجهة الوثنية المكية، كأن تلك الوثنية وما صاحبها من طغيان كانت هي الوضع الإنساني الأفضل في القرن السابع الميلادي، إلى الدرجة التي تدفع الذاكرة الغربية إلى التحسر عليه في القرن الحادي والعشرين، وهو أمر لا يعكس سوى تشويه فج للحقيقة التاريخية، عندما تخضع للنرجسية الثقافية الغربية.