الاعتلالات التي أصابت الجسم التعليمي في الأردن منذ مطلع السنة الحالية أدخلتهُ قبل أسابيع في مرحلة موت سريري، فالأزمة التي ألقت بظلالها على التعليم والمعلمين كانت الأشد حِدّة، وتطلب انهاؤها تدخل رئيس الحكومة وانتهت بتوجيهات ملكية طمأنت المعلمين وأعادتهم الى مدارسهم التي تعطلت لأيام في غالبية محافظات المملكة. المعلمون في الأردن يرزحون طيلة العقود الأخيرة تحت وطأة أوضاع اقتصادية متدنية، نظراً لقلة رواتبهم مقارنة برواتب الوظائف الأخرى سواء في السلك الحكومي أم القطاع الخاص، علاوة على الاعتداءات التي يتعرضون لها من الطلبة وذويهم أحياناً. وتحت وقع تلك الضغوط شكّلَ معلمون من مختلف محافظات المملكة نواة للجنة مصغرة أخذت على عاتقها المطالبة بحقوق العاملين في القطاع التعليمي من خلال تأسيس نقابة، وبدأت اللجنة بالتصعيد في موقفها بطرق سلمية من اعتصامات في أيام العطل، ومطالبات بلقاء الوزير، واجتماعات في نوادي المعلمين. وفي وقت يغمز البعض من أن اللجنة ممولة من جهات حزبية رفض وزير التربية والتعليم الدكتور ابراهيم بدران فكرة إنشاء النقابة، واعتبرها خطوة لتسييس التعليم. وجاءت «زلة لسانه» الأخيرة بمثابة قشة قصمت ظهر البعير إذ قال في تصريح إلى جريدة يومية أن على المعلمين أن «يظهروا بمظهر لائق وأن يحلقوا ذقونهم ويهتموا بملابسهم، قبل مطالبتهم بتأسيس نقابة، وتذمرهم الذي لا داعي له». وبرر الوزير رفضه للنقابة بخوفه من أن تصبح العملية التعليمية عرضة لقوى الشد والجذب الموجودة في النقابات القائمة أساساً على تكتلات حزبية وتشكيلات سياسية لها توجهات واضحة. ويشير بدران الى ان انشاء نقابة مطلب يعود لسنوات مضت ووافق مجلس النواب في 1994 على مشروع قانون لنقابة المعلمين، فيما ارتأى مجلس الأعيان غير ذلك ؛ ما استدعى عرض المشروع على المجلس العالي لتفسير الدستور الذي قرر بدوره عدم جوازها لتعارضها مع مهنة التعليم ولأن المعلم يعد موظفاً عاماً، وينبغي ان يكون ولاؤه للدولة وليس لأي جهة اخرى. لم يحتمل العاملون في قطاع التعليم الصفعة التي نزلت على وجوههم من رأس الهرم الإداري في وزارتهم، فخرجوا في اعتصامات، ومنهم من امتنع عن التدريس في الحصص الأولى عدة أيام وكان على رأس المطالب استقالة الوزير الذي اعتذر نوعاً ما عما قاله وفسره لكن اعتذاره رفض، خصوصاً أن كلامه حول اللحى اعتبر موجهاً ضد المعلمين من ذوي التوجهات الإسلامية. وخرج الطلبة أيضاً متضامنين مع أساتذتهم في اعتصام ليس الأول من نوعه. فشهدت مديريات التربية والتعليم تظاهرات طالبية مطلع شهر شباط (فبراير) الماضي بسبب اخطاء شابت نتائج التوجيهي أو الثانوية العامة في دورتها الشتوية. استيقظ حينها طلبة التوجيهي وذووهم على نتائج مغلوطة نُشِرت في مواقع التربية والتعليم الإلكترونية وفي الكشوفات الورقية التي وزعت على المدارس ما دفع ببعض الجامعات الأجنبية خصوصاً في الدول الغربية إلى الإعلان عن رفضها قبول خريجي هذه الدفعة من طلاب الثانوية العامة الأردنيين. وهذه المرة الأولى في تاريخ الأردن التي تتزعزع فيها ثقة المواطن بالمؤسسة التعليمية، لاسيما ان المغالطات مست نتائج رسمية تحسم خيارات الطلبة في الجامعات، وتتحضر لها العائلات كما الأبناء. فتعلن حالات الطوارئ في البيوت ويحرص الأهل طيلة سنة التوجيهي على توفير الأجواء الدراسية المناسبة لأبنائهم وتخصيص جزء من الدخل الشهري لتغطية تكاليف الدروس الخصوصية، فيما يبقى القلق ملازماً لهم حتى يوم إعلان النتائج. عائلة الطالب أسامة البياري احتفلت أول يوم بنجاح ابنها بعد أن علمت بتحصيله عبر كشوفات ورقية علّقَتها المدارس. لكن الفرحة لم تكتمل، إذ تفاجأ الشاب بأنه راسب لدى مراجعته لمديرية التربية والتعليم في اليوم التالي. ويعتبر خالد صياحين والد احد الطلبة ان الوزارة ارتكبت «غلطة لا تغتفر» وأساءت للتعليم وصدقية شهادات التوجيهي على رغم إعلان الوزارة أن الخلل الذي حصل فني بحت ومعالجته لم تستغرق ساعات. الطلبة لأول مرة يخرجون إلى الشوارع معتصمين وعيونهم تقدح شرراً وبأصوات مجلجلة طالبوا باستقالة الوزير وإعادة الامتحان. محمد ، طالب توجيهي كان يقف وسط الجموع المحتشده أمام مديرية التربية طيلة ثلاثة أيام هاتفاً وأصدقاءه بإلغاء نظام التوجيهي فهو يعتقد أن «تقويم أداء الطالب لسنة في امتحان واحد غير عادل». وهو كغيره، أصابه الإحباط وأصبح غير مبال بدراسته ويقول: «انا لا أثق بالنتيجة المعلنة لأن الوزارة لم تأخذ كلام رئيس الوزراء على محمل الجد ولم تعد إدخال العلامات». وساهمت التصريحات المتضاربة الصادرة عن وزارة التربية والتعليم بتعميق دائرة الشك التي دخلها المواطنون ولا يزال كثيرون غير واثقين بصحة النتائج. وزير التربية والتعليم الذي شهد قرار رئيس الوزراء بإلغاء النتائج الإلكترونية لامتحان الثانوية العامة والبدء بعملية إعادة إدخال النتائج يدوياً أعلن أن «الامتحان ذاته وعمليات التصحيح والتدقيق وجمع البيانات وتخزينها تمت في شكل صحيح ومتكامل»، وأن «المعلومات والبيانات التي تتضمن العلامات ونتائج الامتحان المودعة في النظام الرئيس للوزارة صحيحة في شكل مطلق وكل نسخة ورقية للامتحان ناتجة من هذا النظام صحيحة». ولم يلتفت الوزير إلى قرار رئيس الوزراء الذي كلف لجنة فنية مختصة للبدء بعملية إعادة إدخال النتائج. ويقول محمد وهو مدرس في احدى المدارس الحكومية: «الرواتب التي نتقاضاها لا تتناسب والمسؤولية التعليمية والتربوية الموكلة إلينا. راتبي لا يتجاوز ال 250 ديناراً ( 350 دولاراً) ولا يكفي لتغطية مصروفات المنزل». ويذهب راتب محمد لتغطية الفواتير والحاجات الرئيسة فيما لقمة العيش اليومية لا يمكن تدبرها إلا بعمل آخر. فبعد انتهاء الدوام يعمل محمد سائقاً لسيارة اجرة. ويفسر رفض الخريجين الجدد العمل في قطاع التعليم بصعوبة الأوضاع التي يعيشها المعلم ابتداء من راتب متدن، لذا طالب الأساتذة المعتكفون بنقابة تدافع عن حقوقهم ومنها مثلاً تحسين التأمين الصحي ليصبح من الدرجة الأولى وتسهيل شرائهم أراضِي بالتقسيط وتوفير مكرمة لأبنائهم في الجامعات، وزيادة علاوة المعلم التي لم تتجاوز ال5 في المئة على رغم إقرارها من سنوات. الخبير في الشؤون الاقتصادية الدكتور حسام عايش بيّن أن «غالبية العاملين في قطاع التربية والتعليم تقل رواتبهم عن ال 500 دينار وهو بذلك يلامس خط الفقر الذي يتراوح ما بين 300 -350 ديناراً» . ويضيف: «المعلمون هم أكثر فئة تنخفض رواتبها قياساً الى ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وهو ما يضع الوزارة أمام تحديات تتطلب تخصيص موازنة سنوية لتحسين ظروف المعلم التعليمية والمعيشية». ويشير إلى أن «غالبية الوظائف طالتها زيادة متناسبة مع غلاء المعيشة وتطور الأساليب الاستهلاكية في السنوات العشر الأخيرة ، إذ تحسن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلا أن رواتب المعلمين بقيت في معزل عن التحسين المالي» . ووصف فئة المعلمين بالفئة المظلومة في دخلها لأنها تعاني من عجز في موازنتها الفردية والأسرية، وهو ما ينعكس سلباً على أداء المعلم الذي يشعر دوماً بالإحباط وبأن المجهود الذي يبذله داخل الصف يُقابلّ براتب متواضع. أزمة المعلمين انتهت قبل أيام بقرار من رئاسة الوزراء ثمّنه المعلمون إذ أقرت الوزارة علاوة ال 5% للمعلمين تحتسب لهم بأثر رجعي اعتباراً من بداية السنة . كما كلف مجلس الوزراء ديوان التشريع والرأي بحث إمكان إنشاء روابط مهنية للمعلمين في ظل عدم دستورية إنشاء نقابة لهم وتشكيل لجان لمراجعة تعليمات الانضباط المدرسي وإجراء مسح شامل لأبنية السكن الوظيفي ضمن دراسة شاملة للسكن الوظيفي لجميع موظفي الدولة وتقديم تقرير حولها.