لا تخطئ العين مراقبة الاختلاف بين ما يتسرب من أخبار، من جهات إعلامية في لبنان، محسوبة على دمشق أو على صلة بخطها السياسي، في شأن طبيعة العلاقة الحالية بين القيادة السورية ورئيس حكومة لبنان سعد الحريري، وبين ما تشيعه أوساط الحريري ومصادره الإعلامية عن هذه العلاقة. ففي الوقت الذي يتسرب مثلاً أن هناك تأجيلاً مقصوداً للزيارة الثانية التي كان الحريري «موعوداً بها» الى دمشق، على أمل استكمال تنفيذ «دفتر شروط»، قيل انه وُضع في الزيارة الأولى، توحي أوساطه، مثلما تؤكد تصريحاته، وآخرها خلال زيارته الأخيرة الى اسبانيا، أن الأمور على ما يرام، وأن التواصل قائم بينه وبين الرئيس السوري بشار الأسد، كما أن زيارته الثانية لسورية باتت «قريبة». هل هناك سوء فهم، في مكان ما، للرسائل التي يراد توجيهها الى رئيس حكومة الوحدة الوطنية، أم أن الأمر لا يتعدى الرغبة في تقطيع المرحلة الحالية، التي توصف بأنها «مرحلة أزمة»، على خير، على أمل استعادة الزخم والترحيب اللذين تميزت بهما زيارة الحريري الأولى لدمشق قبل أربعة أشهر؟ سجلت القيادة السورية خطوة بالغة الأهمية على طريق استعادة دورها الإقليمي ومن ضمنه دورها اللبناني، عندما استطاعت إحداث تحول مهم في اللغة السياسية للفريق اللبناني الذي كان معارضاً لسياساتها، وأحياناً لنظامها نفسه، وعلى رأس هذا الفريق «تيار المستقبل» الذي يقوده سعد الحريري. وإذ وضعت دمشق هذا التحول في إطار الاستثمار السياسي لانتصار نهجها ومواقفها السابقة، فان الجانب اللبناني، المتمثل في تيار «المستقبل» وتكتل 14 آذار عموماً، شاء أن يضع التقارب السوري - اللبناني تحت عنوان بناء علاقة سوية بين لبنان وسورية تقوم على احترام سيادة البلدين وعدم تدخل أي منهما في شؤون الدولة الأخرى. وكان لا بد لهذا الاختلاف في تقويم أسس العلاقة الجديدة من أن ينعكس على الترتيبات الجارية للمرحلة المقبلة، ومن ضمنها طريقة التعاطي مع الحريري، بعدما اعتبر لقاؤه الأول مع الرئيس الأسد بمثابة طي لصفحة الماضي وتأكيد رغبة الجانبين في بداية جديدة. من جوانب هذا الاختلاف في التقويم ما يتردد عن رغبة سورية في أن يثبت سعد الحريري التزامه قواعد المرحلة الجديدة، ليس من خلال مواقفه هو وتياره فقط، بل من خلال إعادة النظر في تحالفاته الأخرى، وأهمها الصلات التي يقيمها مع الأطراف المسيحيين، سواء السياسيين كالرئيس أمين الجميل ورئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» سمير جعجع، أو الروحيين ممثلين بالمرجعية المسيحية الأولى البطريرك الماروني نصرالله صفير. من هذا المنظار تصبح العلاقة بين القيادة السورية وبين رئيس الحكومة اللبنانية رهينة للمواقف السياسية للفريق المحيط بالحريري، وهي مواقف لن يستطيع الحريري لجمها، حتى لو أراد. كما تصبح الأسس التي تدير هذه العلاقة خاضعة للانتقادات التي كانت تتعرض لها العلاقة اللبنانية السورية في المرحلة الماضية، قبل أكثر من خمس سنوات، عندما كان نجاح القيادات اللبنانية في الامتحان السياسي الدوري الذي يجري لها في دمشق هو القاعدة التي تحكم حسن أو سوء العلاقات بين البلدين. ما من شك في أن المناخ الإيجابي الذي ساد علاقات سعد الحريري بالقيادة السورية في المرحلة الماضية كان انعكاساً لتحسن في المناخ العام الذي سيطر على العلاقات الإقليمية، وبالأخص على العلاقة السورية السعودية. وما من شك أيضاً في أن هذا المناخ العام لا يزال يخيّم على أجواء العلاقات الحالية بين دمشق وبيروت. غير انه ما من شك أيضاً في أن انتقال العلاقات اللبنانية - السورية الى المرحلة المأمولة التي يجري التبشير بها، لا يمكن أن ينجح إلا إذا أصبحت هذه العلاقات قائمة على أسس سوية بين البلدين المعنيين، من غير حاجة الى أي غطاء آخر، إقليمي كان أم دولي. عندها تصبح مراجعة الاتفاقات والمعاهدات التي أبرمت في المرحلة الماضية أكثر سلاسة، لأنها تؤمن مصالح كل من سورية ولبنان، بصرف النظر عن الميول السياسية للفريق الحاكم في لبنان.