يستشعر الناظر الى التراشقات في السودان، رفاهية حزبية تستوجب استعراضاً للعضلات السياسية. فقد انخرط عدد كبير من أحزاب المعارضة في توجيه السهام والنصال لحزب المؤتمر الوطني الحاكم. ونسوا أو قل تناسوا أن الانتخابات لم يتبق عليها سوى ساعات قليلة. وحتى ضغوطهم وجهودهم فشلت في حض المفوضية القومية للانتخابات على تأجيلها، أو إدخال تعديلات جوهرية على بعض التصورات والإجراءات العملية. كما أن الإخفاق في استدرار عطف جهات خارجية كان بمثابة انتكاسة سياسية خطيرة، فرضت على عدد من القوى الحزبية إعادة النظر في مواقفها السلبية من الانتخابات وما يدور في كواليسها من صفقات. وإذا كان السباق جاء على أشده في إعلان المقاطعة في الوقت الضائع، فإن العودة السريعة للمشاركة والمنافسة كشف عن كثير من الأقنعة الزائفة، التي تدثرت بمثاليات اللحظة الأخيرة، إما هروباً من مواجهة مصيرية تالية أو رغبة في خلط الأوراق الانتخابية الحالية، ومحاولة إيجاد حزمة من الأعذار السياسية. كان ولا يزال حال غالبية الأحزاب، من حال السودان نفسه. غموض والتباس وارتباك وتشابكات وتعقيدات وخيارات مفتوحة على كل الاحتمالات. وكأن الانتخابات جرى تحديد موعدها فجأة ومن دون سابق إنذار، حيث تبارت قيادات كبيرة في توجيه الاتهامات، منشغلة بالمكايدات على حساب تحديد الآليات اللازمة للتعامل مع الواقع بكل مفرداته. وتجاهلت ما قاله عبدالله أحمد عبدالله نائب رئيس مفوضية الانتخابات there is no perfect elections أي ليست هناك انتخابات كاملة الدسم. لذلك بدا أن حزب المؤتمر الوطني كسب الجولة الأولى من الانتخابات مبكراً وأوشك على رسم معالم خريطة القوى الحزبية وفقاً لرؤيته السياسية. ولن تكون هناك صعوبة في ترتيب أجندتها خلال الفترة المقبلة. ليس فقط لما تردد حول إعداده طبخة محكمة تضمن له الحصول على غالبية تصويتية مريحة على كافة المستويات، بل لأن المعارضة نزعت بنفسها كل أوراق التوت التي استخدمتها لتغطية عوراتها السياسية، التي منعتها طوال أكثر من عشرين سنة من تحقيق إنجازات رئيسية (سياسية وعسكرية) لإسقاط أو على الأقل إضعاف القائمين ما وصف بثورة الإنقاذ. حيث ارتاحت للتخندق خلف الشعارات وتغافلت عن المتغيرات، التي جعلت حزب المؤتمر الوطني ممسكاً بالمفاصل وناجياً من المقاصل. وتسعى جهات كثيرة لخطب وده، طمعاً في مصالح سياسية أو جرياً وراء أهداف اقتصادية. اقتراع منزوع الدسم ليس هذا دفاعاً عن حزب المؤتمر الوطني ولا هجوماً على المعارضة، لكنه محاولة للتوصيف والتفسير وفهم ما يجري من تطورات مصحوبة بسلاسل من المفاجآت، أقدم عليها عدد كبير من أحزاب المعارضة، وانتكاسات لازمت الكثير من تحركاتها خلال الأيام الماضية. وتوقع كثير من المراقبين أن تكون انتخابات نيسان (أبريل) منزوعة الدسم. لأنها تأتي في مناخ مليء بالمشاحنات وحافل بالتجاذبات وبعد حوالى 25 سنة من آخر انتخابات ديموقراطية ( 1986 ). وعلى أثرها ستتحدد وجهة بعض المسارات السياسية. كما أن عزوف الأحزاب التقليدية في عملية المشاركة لفترات طويلة، قسراً وقهراً أو ترفعاً وهروباً، ساعد على تثبيت أقدام حزب المؤتمر الوطني والقبض على مفاتيح السلطة والثروة، والتي مكنته من الإمساك بزمام أمور مختلفة. أبرزها عملية الانتخابات التي حاولت المفوضية القومية التظاهر بأنها سعت لتوفير بيئة صحية لإتمامها، من حيث الإعداد والترتيب والإشراف، لكسر هواجس الاتهام بالتزوير، الذي رافقها منذ اللحظات الأولى لميلادها، بعد أن أجيز قانون الانتخابات في 15 تموز (يوليو) 2008. وبموجبه تم تكليف أعضاء المفوضية القومية للنهوض بمسؤولية إجراء الانتخابات. في كل خطوة مشتها الحكومة السودانية للاقتراب من الانتخابات، كان الخلاف عنصراً حاسماً بينها وأحزاب المعارضة بسبب الشكوك المتراكمة وإهدار مقومات الثقة المتبادلة. فكل جانب سعى لاستثمار أخطاء الجانب المقابل وتسجيل أكبر عدد من النقاط السياسية في مرماه. ولم يتعب الجميع من البحث عن قواسم مشتركة تتواءم مع مخاطر التحديات التي تواجه السودان في الوقت الراهن. وتفوقت المصالح الحزبية على نظيرتها الوطنية. ولعل الإمعان في ركائز هذه الانتخابات يمكن أن يفيد في التعرف على ما سيترتب عليها من نتائج بالنسبة للخريطة السياسية في البلاد. وحدد دستور السودان الحديث عدد نواب البرلمان ب 450 مقعداً من بين الولايات ال 25. ونصّ قانون الانتخابات على نظامي الانتخاب الحر المباشر في الدوائر الانتخابية الجغرافية (60 في المئة من المقاعد) والتمثيل النسبي (40 في المئة)، ونصّ أيضاً على مشاركة المرأة بنسبة 25 في المئة وبلوائح منفصلة. وخصص 15 في المئة من المقاعد للقوائم الحزبية. واشترط القانون حصول المرشح على 4 في المئة من مجموع أصوات الناخبين لدخول البرلمان، وطالب المرشحين لمنصب الولاية بالحصول على تزكية خمسة آلاف ناخب من المحليات، في حين طالب المرشحين لرئاسة الجمهورية بالحصول على تأييد 15 ناخباً من 18 ولاية لقبول الترشيح. وعلى هذا الأساس دخل السباق 11 مرشحاً للرئاسة، منهم من انسحب قبل أيام قليلة، احتجاجاً على ما وصف بتجاوزات من جانب مفوضية الانتخابات في مقدمهم ياسر عرمان مرشح الحركة الشعبية ومحمد ابراهيم نقد رئيس الحزب الشيوعي السوداني. وأظهر جدول توزيع الدوائر الجغرافية للولايات ال 25 التي يتكون منها السودان، أن ست ولايات، هي: الخرطوم والجزيرة وجنوب دارفور وشمال دارفور وشمال كردفان وكسلا، حازت على 225 مقعداً، أي نصف مقاعد المجلس الوطني، بينما تقاسمت الولايات ال 19 النسبة الباقية. وبلغت المقاعد المخصصة لولايات جنوب السودان العشر 96 مقعداً. وهي تمثل 21,3 في المئة من عدد المقاعد المخصصة للمجلس الوطني. وهي النسبة التي حددها الإحصاء السكاني لقاطني الجنوب. وجاءت ولاية جونجلي في مقدم الولاياتالجنوبية العشر، حيث نالت 15 مقعداً، بنسبة تصل إلى 15,6 في المئة من إجمالي مقاعد الجنوب. وتعرضت مفوضية الانتخابات لهجوم ضار من قبل معظم أحزاب المعارضة الرئيسية. وكانت غالبية خطواتها وتصرفاتها محل نقد من جانبهم، خصوصاً عندما أسندت طباعة جزء من بطاقات الاقتراع لمطبعة العملة. لكن الحقيقة التي ذكرتها المفوضية في هذه المسألة تسير في اتجاه مغاير لما درجت المعارضة على ترديده، أو على الأقل جرى تحريفه لزيادة الإمعان في تشويه صورتها. فقد وضعت المفوضية بالتعاون مع قسم بعثة الأممالمتحدة للمساعدة الانتخابية، مواصفات بطاقات الاقتراع وتم توزيعها على أربع مجموعات، طرحت في عطاء عالمي لتقديم عروض لطباعة البطاقات. وقدمت 21 شركة عطاءاتها وتم اختيار قائمة قصيرة من تسع شركات لتقييم عروضها، بينها شركتان سودانيتان، هما شركة الحياة الجديدة ومطابع العملة السودانية. وعند تقييم عروض هذه الشركات تمت ترسية مجموعتين على شركتين من جنوب أفريقيا ومجموعة واحدة على شركة بريطانية والرابعة على شركة من سلوفينيا والأخيرة تخص بطاقات الاقتراع للمناصب التنفيذية. بعد ذلك رأت المفوضية أن نتيجة الانتخابات قد تقتضي إجراء جولة ثانية لانتخاب رئيس الجمهورية. ولأن الفترة بين إعلان النتائج وإجراء الجولة الثانية هي 21 يوماً فقط ولن تمكن المفوضية من طباعة بطاقات الاقتراع في سلوفينيا، قررت المفوضية ترسية عطاء هذه المجموعة على إحدى الشركتين السودانيتين. وعند إعادة عرضيهما رأت المفوضية ترسية العطاء على مطابع العملة، لاعتبارات السرية التي تحيط بأعمالها والخبرة الممتدة. لكن المعارضة رفضت تصديق هذه الرواية ومضت في شكوكها، متصورة أن أركان جريمة التزوير متوافرة، طالما أن بطاقات الاقتراع تمت طباعتها في السودان. الأمر الذي يمكن الرد عليه من جهتين: الأولى أن عدداً كبيراً من دول العالم المتقدم والمتخلف تقوم بالطباعة في مطابع محلية، بصرف النظر عن الجهة التي تملكها، رسمية أو غير رسمية. والثانية وجود عشرات الآلاف من المراقبين من الداخل والخارج والذين بإمكانهم كشف ما قد يحدث من تزوير وتسجيل ما يحدث من خروقات. وفي هذه الحالة سوف تكون حجج المعارضة أكثر تماسكاً وإقناعاً. ومن هذه الزاوية راجعت بعض الأحزاب مواقفها وعادت للمشاركة، أملاً في تسجيل الملاحظات أثناء العملية الانتخابية وبالتالي تتمكن من الخروج من مأزق التقاعس الذي أصبح يلازمها عند كل محك أو اختبار ينطوي على مواجهة سياسية. وحددت مفوضية الانتخابات التي اختير لرئاستها الجنوبي أبير ألير ثلاثة مستويات تنفيذية (رئيس الجمهورية ورئيس حكومة الجنوب ووالي الولاية). ويفوز الرئيس بالغالبية المطلقة، أي 51 في المئة، أما رئيس حكومة الجنوب والوالي فيفوزان بالغالبية النسبية، بمعنى سيفوز من يحوز على أعلى الأصوات. وهناك ثلاثة مستويات تشريعية (المجلس الوطني وبرلمان الجنوب ومجلس الولاية). وسيواجه الناخب السوداني في الشمال ثمانية صناديق، لأن للمجلس الوطني ثلاثة صناديق، هي: الدوائر الجغرافية ودائرة النساء والقوائم الحزبية ومثلها لمجلس الولاية. مستويات سياسية متداخلة كان مصير الانتخابات في دارفور من أكثر القضايا التي احتلت مساحة واسعة من الجدال. ويمكن هنا الحديث عن مستويات متداخلة، عبرت عن وجهات نظر متباينة، كل بحسب الأرضية السياسية التي يقف عليها والتي لعبت دوراً في الانحياز للتأجيل التام أو الإجراء الجزئي للانتخابات في الإقليم. فحزب المؤتمر الوطني رأى أن هناك أماكن كثيرة تتمتع بقدر من الهدوء والاستقرار في دارفور. ومن الواجب المضي في طريق الانتخابات، مع استثناء بعض المناطق القليلة، لأسباب سياسية أو أمنية، لا فارق. المهم أن الحكومة أرادت استباق أي تسوية متوقعة للأزمة وترتيب أوضاعها بما يتناسب مع مصالحها وشروطها. ورفضت التجاوب مع نداءات زعماء المتمردين في الاقليم بالتأجيل لحين جلب السلام. وحتى رؤساء أحزاب جوبا الذين كانوا قد ربطوا عند إعلان تحالفهم في أيلول (سبتمبر) الماضي دخول الانتخابات بتسوية الأزمة في الإقليم تناسوها في خضم انشغالهم بخلافات أخرى، تمس مصالحهم المباشرة. كما امتطت الحركة الشعبية حصان دارفور عندما ربطت انسحاب مرشحها للرئاسة ياسر عرمان بعدم الاستقرار في دارفور، كمحاولة لتبرير هذه الخطوة، التي فسرها كثيرون بأنها جاءت لصالح عمر حسن البشير مرشح حزب المؤتمر الوطني، وجرى التلميح إلى وجود صفقة بين شريكي الحكم قضت بالانسحاب المفاجئ. والغريب أن مفوضية القومية أجلت الانتخابات في ولاية جنوب كردفان ورفضت المعاملة بالمثل في عدد كبير من دوائر دارفور مع أن الاستثناء ليس بجديد على السودان. ففي انتخابات عام 1965 أجلت الانتخابات في الجنوب بسبب التوترات الأمنية. وفي انتخابات عام 1986 تكرر المشهد ذاته، باستثناء بعض المناطق، حيث بلغ التمرد ذروته. وبسبب الظروف الأمنية أيضاً استثنيت مناطق في الجنوب خلال الانتخابات البرلمانية عامي 1996 و 2001. وأهم ما كشفته أزمة الانتخابات في دارفور هو وقوع المجتمع الدولي في تناقض فاضح. ففي الوقت الذي اعترف بوجود انتهاكات لحقوق الإنسان واستمرار الاضطرابات في الاقليم، غض الطرف عن خطوات الحكومة بشأن الانتخابات في دارفور، لأن عين واشنطن وحلفائها مصوبة باتجاه تمرير الانتخابات وتخفيف حدة الصدام مع الخرطوم، رغبة في الحفاظ على السلام القائم في جنوب السودان، بدلاً من السلام الحائر في دارفور. ولهذا السبب وقعت الولاياتالمتحدة في فخ دفاعها عن حقوق الإنسان وبين مصالحها وأهدافها في السودان. فعندما نددت أحزاب المعارضة بما سمته انتهاكات مفوضية الانتخابات، خرج عليهم سكوت جريشن المبعوث الأميركي الخاص للسودان نافياً ذلك، ومؤكداً أنها ستجرى في موعدها وعلى قدر عال من النزاهة والحرية. وفي كل الأحوال، ستكون انتخابات 11– 13 نيسان مقدمة لترسيم المعالم الجديدة لخريطة السودان. ففي الشمال غالباً سيواصل حزب المؤتمر الوطني هيمنته على العملية السياسية، حتى يتمكن من استكمال تنفيذ بنود اتفاق نيفاشا. ومن المتوقع أن تتوارى كثير من مقومات الأحزاب التاريخية. وربما يكون حزب المؤتمر الشعبي بزعامة حسن الترابي هو أكثر الأحزاب حنكة في التعامل مع هذه الانتخابات، لأنه يخوضها لإظهار قوته في الشارع وإحراج غريمه المؤتمر الوطني. وفي الجنوب ستتواصل الاستعدادات الرامية لاتمام الاستفتاء العام المقبل وستنحني الحركة الشعبية لكل العواصف السياسية والأمنية لتحقيق هذا الغرض. ويبقى مصير أزمة دارفور هو الاختبار المجهول الذي ستواجهه أطراف داخلية وخارجية، لأنه لا يزال مفتوحاً على كل الاحتمالات. * كاتب مصري.