ترسخ الخيارات التي أتخذتها الإدارة الأميركية هذا الأسبوع، من الإعلان عن عقيدة جديدة تضع قيوداً على استخدام السلاح النووي الى توقيع الرئيس باراك أوباما معاهدة «ستارت 2» مع روسيا، نهجاً أميركياً مختلفاً يعطي أولوية لتمتين العلاقة مع الكرملين بدل حصر الاهتمام بتعزيز القوة العسكرية الأميركية، ولا يفرط في الوقت ذاته بموقع هذه القوة العسكرية الأميركية ويحتفظ بخيار «الضربة النووية أولاً» أمام دول تنتهك اتفاقية مكافحة الانتشار النووي ومنظمات ارهابية تسعى الى الحصول على قدرات نووية. ويأتي توقيع أوباما ونظيره الروسي ديمتري ميدفيديف على معاهدة «ستارت 2» في العاصمة التشيكية براغ أمس، لتقليص الأسلحة النووية في كلّ من الدولتين بنسبة 30 في المئة، وذلك بعد يومين من اعلان واشنطن عن استراتيجية جديدة، لتؤكد النهج البراغماتي الذي تسير عليه الإدارة الأميركية في مقاربتها للعلاقة مع روسيا وقراءتها للتحديات الدولية. و رأى خبراء مرموقون بينهم فرد كابلن، ان العقيدة النووية الجديدة تشكل تحولاً صارخاً عن سياسات الرئيس السابق جورج بوش ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد الذي حاول وخلال الولاية الأولى له (2000-2004) وضع خطط لتوسيع الترسانة النووية وزيادة عدد الرؤوس وإدخالها في الحروب التقليدية، وهو ما بقي حبراً على ورق ولم ينل موافقة الكونغرس. وإذ تنطلق سياسات رامسفيلد بمعظمها من مدرسة المحافظين الجدد ونهج فرض القوة الأميركية في مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، تسلك ادارة أوباما مساراً مختلفاً يستند الى عقيدة براغماتية تعي حدود القوة الأميركية وحاجة واشنطن الى رص تحالفاتها مع القوى الأكبر على الساحة الدولية (الصين والهند وروسيا والبرازيل) للتعامل مع شتى التحديات. من هنا يأتي تركيز الاستراتيجية الجديدة على عدم تطوير أي رؤوس نووية أخرى، وتعديل تلك التي تحمل ثلاثة رؤوس الى رأس واحد، ليهدئ بحسب كابلن من مخاوف الكرملين بتأكيد أن واشنطن تخطت زمن الحرب الباردة ولا تخطط لأي ضربة نووية برؤوس ثلاثية ضد الترسانة الروسية. وتحمل صيغة الاستراتيجية النووية الأميركية الجديدة عبارات منمقة تحفظ خط الرجعة للإدارة في تسويقها العقيدة الجديدة داخلياً وتحد من سقف الالتزامات في الخارج. وفيما يأتي تعهد الإدارة عدم استخدام السلاح النووي الا في حالات «الضرورة القصوى»، لم يلتزم البيت الأبيض مطالب الليبراليين ومبدأ «عدم توجيه الضربة أولاً»، واحتفظ باستثناءات قد تجيز هكذا سيناريو في التعامل مع الدول التي تنتهك اتفاقية مكافحة الانتشار النووي (مثل ايران وكوريا الشمالية)، أو مع منظمات ارهابية تتخوف واشنطن من حصولها على هذا السلاح. ولم تمنع هذه الاستثناءات من انتقادات عنيفة لليمين الأميركي ضد الاستراتيجية ومخاوف خبراء دفاعيين متشددين من أن تحد عقيدة أوباما من قدرة الولاياتالمتحدة في مواجهة تهديدات «دول مارقة» أو أنظمة مثل النظام العراقي سابقاً. ويرى الخبير في معهد «أميركان انتربرايز» توم دونلي، أن تعهد البيت الأبيض بعدم مواجهة أي بلدان لا تمتلك السلاح النووي بهذه القوة وحتى لو استخدمت سلاحاً بيولوجياً وكيماوياً، يحد من أوراق الضغط الأميركية في أي مفاوضات مع هذه الدول. ويشير دونلي الى المفاوضات التي قادها وزير الخارجية السابق جايمس بايكر مع نظيره العراقي طارق عزيز قبل حرب تحرير الكويت، وتلويح بايكر كما روى في مذكراته بأنه في حال استخدام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين «أي سلاح بيولوجي أو كيماوي ضد قواتنا...فإن الشعب الأميركي سيطالب بانتقام بشع»، وهو ما يفسره دونلي برد نووي. ويرى دونلي أن هذه اللهجة منعت صدام من استخدام هكذا أسلحة، الأمر الذي لم يعد يجدي اليوم بعد تعهد واشنطن عدم استخدام السلاح النووي ضد البلدان غير النووية وغير المنتهكة للاتفاقية. ولم يدرج العراق يومها على لائحة الدول المنتهكة لاتفاقية الانتشار النووي حتى 1991. الا أن ثقة الجانب الأميركي بحيازة قوى ردع خارج اطار السلاح النووي وتأكيد التقرير أن واشنطن «لديها القوة العسكرية الأكبر»، يجعل من الاستراتيجية الجديدة ورقة رابحة لأوباما. فمن جهة ستساعد في اعطائه زخماً دولياً، وفي تحسن العلاقة مع الكرملين وأفق التعاون في ملفات ايران وأفغانستان والإرهاب، وتبقيه في موقع الوسط لعدم تخليه عن خيار الضربة الأولى وعدم خفضه الموازنة العسكرية.