الاثنين 29/3/2010: دولة غريبة في التقرير الشهري لجمعية مصارف لبنان أن الدين العام للدولة اللبنانية بلغ حتى نهاية كانون الثاني (يناير) الماضي 51.6 بليون دولار، مرتفعاً نصف بليون عن كانون الأول (ديسمبر) 2009. فإذا افترضنا أن عدد اللبنانيين المقيمين والمترددين على وطنهم هو أربعة ملايين، يتحمل كل مواطن 13 ألف دولار من عبء الدين العام... الى الآن على الأقل. لا وعي لبنانياً بهذا العبء بسبب تغييب المواطنة، السياسي والمادة التكوينية للدولة تقتصر، منذ نهاية الحرب الأهلية، على زعماء الطوائف وحاشياتهم. هؤلاء الزعماء يتصرفون يومياً كأن الدين العام ليس مسؤوليتهم بل هو مسؤولية جسم افتراضي اسمه الدولة يتنصل منه الجميع، حتى الذين يستفيدون منه مالاً وتحكماً بأقدار دافعي الضرائب. أين الدولة اللبنانية؟ كثيرون يجيبون: نحن الدولة، حين يتعلق الأمر بالمنفعة. ولا أحد يجيب حين يتعلق بالمسؤولية. الثلثاء 30/3/2010: زهر يتوهج صوتها يأتي ثم ينقطع. ليس الفساد ما يجعل الإرسال متقطعاً، ربما رغبتها في القول: أنا موجودة. وبلا كلام صوتها، علامة مسافة لا يطويها السفَر، فلكل منا كوكبه انسحب إليه إذ تركنا أرضاً جمعتنا لزهر يتوهج ثم تطفئه الميليشيات. لا تكفي الذكريات حين ينقطع خيط الحب فوق بناء عالٍ، يطير واحدنا الى فضاء جاذب ويهوي الآخر الى سحيق. هل بقي وقت، حتى لرسم ما كان، في خيال لا يقوى على لملمة يوم واحد؟ أغادر البيت. أتنفس هواء البراري، وأقيس الفرق بين الإنسان والشجرة، بين الإنسان والذئب. أرى أشياء لم أرها في السابق، كأنها ولدت للتوّ، فالمشي تحت السماء يهبنا ما لا نرى على الشاشة ولا نقرأ في الكتب: ومض أشياء تظهر ثم تغيب مثل برق حنون، لا رعد ولا مطر. الصوت البعيد، كأنه من وراء الجبل يأتي لا من قارة خلف المحيط. يدعوني الصوت الى المشي، لتتجمع في المساء أحلام متجددة. الأربعاء 31/3/2010: محمد سيد أحمد التقيت محمد سيد أحمد مرة وحيدة في إحدى الندوات في الكويت. تحدثنا عن لبنان وكان سائلاً أكثر منه مجيباً، ومن أسئلته دفعني الى احتمالات للبنان. انهض الرجل معلوماتي وإحساسي بوضع معقد لا يستطيع الغارق فيه التعبير إلا إذا أتيح له لقاء بمحمد سيد أحمد أو من يماثله «علمياً» و «تواضعاً». في الندوة الكويتية رأيت المفكر الأنيق على النمط الأوروبي وقد أغمي عليه. أرسلته إدارة الندوة سريعاً الى المستشفى وأعيد في المساء معافى. كانت تجربة على غيابه الذي تحقق عام 2006، وقد بلغ السابعة والسبعين. لمحات من حياة محمد سيد أحمد الغنية ضمها كتاب يحمل اسمه أصدرته أخيراً دار الشروق في القاهرة وقدمه محمد حسنين هيكل. مادة الكتاب ذكريات عائلية بأقلام مايسة طلعت (الزوجة) وهدايت سيد أحمد (الأخت) وطارق وعمر وسيد أحمد (الابنان) ومحمد الشواربي وأمينة رشيد ونايرة عجة (أقرباء). وذكريات أصدقاء عن سنوات الصراع، وتحيات من أصدقاء آخرين وعارفين. وينتهي الكتاب بشهادة نقدية له عن الحركة الشيوعية المصرية. تكتب شقيقته: عشنا طفولة وشباباً ممتعين، كنا نلعب كما نشاء، وعندما كبرنا صرنا نحضر حفلات الرقص الأسبوعية، وفي الصيف كنا نذهب الى سيدي بشر. وعلى رغم اشتعال الحرب على الجبهات الأوروبية إلا أن مصر ظلت حتى نهاية الحرب (عام 1945) جنة الله على الأرض بالنسبة إلينا. وتكتب أمينة رشيد: كنت طفلة وكان شاباً. اسمه محمد سيد أحمد، لكنني لم أعرف له اسماً غير «متسو». كان أبوه، عباس باشا سيد أحمد، خالاً لأمي، وكان «متسو» مولعاً بالرياضيات لامعاً فيها ويحب ممارسة دور الأستاذ علينا نحن الصغار (...) وفي نهاية الأربعينات سمعت فجأة أن «متسو» اختفى. تدخل كلمة جديدة في معجم أسرتي: «الشيوعية». سمعت أن «متسو» شيوعي. وغيابه في مكان مجهول ملأ قلب أمه «طنط وحيدة» بالحزن. أرسل عباس باشا «متسو» الى باريس لكنه هرب بعد شهور قليلة تاركاً الدراسات العليا، مرسلاً الى أهله أنه مصر على استكمال مسيرته الثورية وطالباً ألاّ يبحث عنه أحد. ويكتب أنور عبدالملك: كان محمد سيد أحمد، ابن الباشا، سيشغل المكان الذي يستحقه كرجل دولة مسؤول عن صنع المستقبل في بلاده، لكن ذلك كان مستحيلاً في ظل إصرار السلطة على القضاء على جيل الأربعينات من الثوريين الشباب. ويكتب جميل مطر: رأيته في الصين يناقش شوآن لاي في خلافات الحزب الشيوعي الصيني والحزب الشيوعي السوفياتي، وفي دور الفلاحين. ويكتب اريك رولو: لم يكن محمد سيد أحمد يرفض فكرة تشكيل جبهة مضادة للإمبريالية تضم الإسلاميين. ويكتب هاني شكرالله: كان يبحث عن الحقيقة، والبنى الواقعية خلف هذه الحقيقة، لينفذ الى ما كان يسميه «الدروب الواسعة» حيث «ينكشف التاريخ». ليس كتاب «محمد سيد أحمد» عنه كفرد لقّبه البعض ب «الباشا الأحمر» وإنما كنموذج للمصري الطالع من الثقافة الأوروبية الفائضة الى الضفة الثانية من المتوسط. الآن نحن أمام نموذج آخر للثقافة يطفو على السطح في عالمنا العربي، ثقافة أميركية متعجلة، تناهض في أحيان كثيرة سياسة الولاياتالمتحدة لكنها تعتمد آليتها. لننظر الى الحكام والمعارضين ومن يحيط بهم. إنهم المثال، لأن النمط الأوروبي انطوى والعالم مقبل على تشظّ ثقافي «أميركي» لا نعرف الى أين يؤدي. الخميس 1/4/2010: نيتشه أيضاً لم تكتمل ترجمات كتب فردريك نيتشه الى العربية: أول المترجمين كان فيلكس فارس الذي نقل في الإسكندرية «هكذا تكلم زرادشت» في ثلاثينات القرن الماضي عن الفرنسية، وفي الثمانينات ترجم اللبناني الآخر حسن قبيسي كتاباً للفيلسوف الألماني، وتبعهما التونسي علي مصباح الذي أعاد ترجمة «هكذا تكلم زرادشت» ونقل كتابين آخرين، أحدثهما «غسق الأوثان... أو كيف نتعاطى الفلسفة قرعاً بالمطرقة». من الكتاب هذا المقطع عن بسيكولوجيا الفنان: «لكي يكون هناك فن، ولكي يكون هناك عمل جمالي ما ونظرة جمالية، لا بد من توفر شرط فيزيولوجي لا محيد عنه: النشوة. لا بد أن تكون النشوة رفعت من وتيرة استثارة الآلة بكليتها. من دون ذلك لا يمكن إنجاز أي فن. وأنواع النشوة كلها، مهما اختلفت أشكال المثيرات، تمتلك القدرة على ذلك، خصوصاً النشوة الناجمة عن الإثارة الجنسية، الشكل الأكثر قدماً والأكثر بدائية. ولا تختلف أيضاً النشوة المتأتية عن الرغبات الكبرى والأحاسيس القوية. نشوة الاحتفال، ونشوة المبارزة، والأعمال البطولية، والانتصار، والأفعال القصووية كلها. نشوة الشناعة، نشوة التدمير. النشوة التي تثيرها تبدلات الطقس مثل نشوة الربيع، أو تلك الناجمة عن مفعول المخدرات. وأخيراً نشوة الإرادة، إرادة عرفت طول تراكم وتضخم. الأساسي في النشوة ذلك الشعور بتفاقم الطاقة وزخم الامتلاء. وبدافع من هذا الشعور نضفي من أنفسنا على الأشياء، نجبرها على أن تتسلم منا، بل نغتصبها – وتسمى هذه العملية مثلنة. ولندع عنا فكرة متداولة. المثلنة لا تتمثل كما يظن الاعتقاد الشائع في أننا ننقي الأشياء ونخلع عنها كل ما هو صغير وثانوي، بل إن التركيز بصفة هائلة على إبراز الخاصيات الأساسية هو العامل الحاسم في جعل غيرها من الخاصيات يتوارى ويضمحل». الجمعة 2/4/2010: إبراهيم المهاجر هذا الصباح مع إبراهيم. كانت ليلته صعبة في بيت شباب. هواء الجبل أثقل جسده، ومناظر الجبل أيضاً في النهار والليل. يكون الجمال أحياناً ثقيلاً على النفس والجسد. كنت نصحت إبراهيم: تناول الجمال مثلما تتناول السكر. قليله حلاوة وكثيره يعكّر المزاج. جلسة الصباح كانت قصيرة في بيروت. حمل إبراهيم حقيبته متجهاً الى مغدوشة، البلدة نصف الجبلية لن تثقل جسده، وهناك أمه يتطلع إليها فيكتسب قوة عجائبية، قوة الحب والطيران لا قهر الآخرين. توقعت منه كلاماً كثيراً، مثلما يتكلم المهاجرون بادئين من المقارنة بين القوانين هنا والقوانين هناك ومنتهين بحقوق الإنسان والحرية. لم يتكلم إلاّ قليلاً. كان يخاطب بديبلوماسية. صديقي الآتي الى لبنان بعد غياب يتعامل معنا كأنه يغادر غداً، فلا داعي لنقض الأهل والأصدقاء أو دعمهم. إنهم هنا باقون وهو عائد الى هناك. صديقي يهتم بأمر واحد: أن يتصالح جسده مع هواء لبنان وشمسه، مع نهار لبنان وليله. انه الجسد، من هذا المكان جاء والى مكان آخر يعود.