ربما لم يعش العراقي «حالة ارهاق» مارستها عليه الفضائيات في قنواتها المعنية في الشأن السياسي كما عاشها خلال الفترة التي أعقبت الانتخابات البرلمانية الجديدة التي أجريت في السابع من الشهر الحالي. فالصراع الذي دار، ولا يزال يدور بين القوائم والكتل المترشحة انتقل من كونه «منافسة انتخابية» الى «حرب اعلامية» لو سادت بين دولة ودولة أخرى لأثارت نزاعاً فعلياً بينهما، وكأن المتحاربين (عفواً المتنافسين) على مقاعد البرلمان أرادوا عن سابق تصميم وسوء قصد (وربما ب «براءة» التسابق الإعلامي الموجّه بين عدد من الفضائيات غير الممولة علناً) ان تشتعل فتنة يكون المجتمع موقدها والبشر البريء حطبها - وما زال التهديد مستمراً لا يخلو يوم منه. توزع عمل هذه «الفضائيات»، التي أوجدت منطقاً آخر للإرهاب وأشاعته، على أكثر من محور: فهناك ما يمكن تسميته ب «محور النصرة» لمن تريد له هذه القناة الفوز وإحراز الغلبة على «مغلوب» تتمناه وتستنفر عليه شتى الأصوات والوجوه من عراقيين ومن حملة جنسيات أخرى، في معركة غاب منها «السياسيون الكبار» الذين بات طلبهم شبه مستحيل، تاركين الأمر، طلباً لسلامتهم ونأياً بأنفسهم عن إشكاليات قد لا تنتهي بسلامة وسلام، الى «أطراف متحركة» بحثاً عن المغانم والأدوار، ولا يهم كيف، ومن أين تأتي!... وهناك «محور التزوير»، ليس فقط في ما اتهمت به مفوضية الانتخابات وبعض دول الجوار، وإنما ما تعداها الى التزوير المباشر للحقائق الماثلة لعيان الناس، والذي نهض بالدور الأساس فيه بعض «مجندي الكيانات» و«متطوعيها». اؤلئك الذين يرتدون اليوم لباسَ مهمة جديدة يتصدرون شاشات البث الفضائي بأدوار وانتماءات جديدة، أو «مستحدثة»، ليقوموا لا بالتحليل واستخلاص النتائج والأحكام على ما ينتظر العملية السياسية من تغيير يطالب به الناخب نفسه، بل بالترويج القائم على تزوير الحقائق والأرقام... ولعل من «اطرف» ما حصل في هذا المجال هو أن أحد هؤلاء، ووهو وجه مزمن الحضور تلفزيونياًً مع تغير الانتماءات والولاءات بحسب «الأدوار المسندة إليه»، حاول بحماسته الضوضائية المعهودة أن يقلب الحقائق في الوقت الذي كان فيه الشريط الإخباري للقناة ذاتها يبث «حقائق أخرى» مصدرها مفوضية الانتخابات. وهناك محور الاتهام والاتهام المتبادل، لا بين القوائم من خلال وجوه ممثليها وحسب، وإنما، وبدرجة أكبر، من خلال «مذيعين» دخلوا غمار المهنة في شكل مفاجئ، متخطين «طموحاتهم المضمرة» ليكونوا في هذه الفترة بالذات «مقدمي برامج» و«مديري ندوات» ناعتين وشاتمين من لا يتوافق معهم بشتى النعوت والتهم، ولا سيما لزملاء لهم، لا لشيء إلّا لأن هؤلاء اكتفوا بنقل حقائق لا تروقهم أو تروق من جندوهم لمثل هذه المهمة! وإذا كانت مفردات مثل «التزوير» و «الغش» و«الرشوة» قد ترددت كثيراً في وصف هؤلاء المذيعين - الضحايا، فإن الكلمة - التهمة التي لم ترد على لسان هؤلاء هي «العمالة»، التي اختفت من القاموس السياسي العراقي الرسمي في السنوات التي أعقبت الاحتلال، وإن ظل الشارع يرددها، وقد وجد فيها كثيرون «حالة طبيعية» بعد أن ولى الزمن الذي كانت تعد فيه «عيباً»، على حد قول احد أصحاب هذه الفضائيات مشيراً الى هذه الحقيقة بلغة التهكم! هذا كله ينصب منذ أكثر من اسبوعين، وبكثافة بالغة، على رأس المواطن العراقي المرغم على المشاهدة والمتابعة لسببين: فأولاً لأن القضية تعنيه إنساناً وبلداً كلاهما يبحث عن مستقبله الذي لم يعد منظوراً، خصوصاً أمام تلويح البعض بأن النتائج إذا ما جاءت بالصيغة التي لا ترتضيها ميليشياته (أردت القول: قائمته) فسيكون هناك ما لا تحمد عقباه، ما قد يجر البلد الى كوارث أكبر مما رأى في السنوات السبع الماضيات!). وثانياً، أن هذا المواطن - الضحية مكره على المشاهدة، وليس بطلاً إلّا بصبره على ما يرى ويسمع، إذ لم يتبق أمامه من خيارات في واقع أمنه المتردي سوى لزوم البيت للزوم سلامته، ولا يجد من وسيلة لقهر الفراغ سوى وسيلة قهر الروح وارهاق الرأس: التلفزيون كما أصبح يتمثل أمامه، فإذا هو يهرب من قهر الى قهر! فهل لنا، هنا، أن ندعو القنوات السادية النزعة الى أن تكون أرحم بمشاهديها، وترأف بإنسان هذا البلد فتأخذه بروح الرحمة، أم أن الرحمة كلمة لم يعد لها وجود ومعنى في معجم المتحاربين على كراسي البرلمان والسلطة؟