ما إن يبدأ الشباب السعودي بجنسيه بفقدان جزء من ذاكرة «ثقافة الممنوع» التي لاحقتهم منذ بلوغهم «سن التمييز»، حتى يأتي قرار ما ويعيد إليهم الذاكرة. آخر «المنبهات» التي عادت بهم إلى الوراء كان خبر رفضت هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات السعودية تأكيده أو نفيه، حول منع خدمة «دردشة بلاك بيري»، وهو الأمر الذي غذّى حقيقة المعلومة التي تسربت من داخل الهيئة. التحليلات المبررة للمنع كانت كثيرة، لكن المبرر الذي أقنع شريحة لا بأس بها من السعوديين والمقيمين في المملكة، هو «الدوافع الأمنية»، في الوقت الذي أكد قانونيون أن من حق أي دولة منع كل ما يضر بأمنها، في إشارة إلى خطر استغلال «أصحاب الفكر الضال» التقنية في اتصالاتهم. لكن خبيرين أمنيين سعوديين سخروا من المبرر الأمني، واعتبروه «حلاً عقيماً» لمحاربة الإرهاب، ولفتا إلى وجود حلول تقنية يمكن معها مراقبة هذه الخدمة، لا سيما أن لكل مستخدم رقم اشتراك خاصاً به. ويوضح رئيس «مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية» الدكتور أنور عشقي أن أساليب الإرهابيين في تطور مستمر ولن تقف عند خدمة كهذه، «فالحل ليس منع التقنية بكل أشكالها». ويضيف: «قرار منع كل ما هو جديد، له آثار سلبية إذ يقلل معه معدلات الولاء للدولة، خصوصاً لشعور المواطن بوجود من يقيد عمله وحركته، من دون أسباب جوهرية». كذلك كان الأمر بالنسبة للخبير الأمني اللواء يحيى الزايدي الذي يؤكد أن المنع «ليس حلاً»، مشيراً إلى وجوب مواكبة التقنية، على الصعيدين العملي والرقابي، «فالعالم يشهد كل يوم ولادة تقنية جديدة». ويوضح أن تقنية البلاك بيري «مقننة» ويمكن تتبع مستخدميها، خصوصاً أن استخدامها مرتبط بالتسجيل في الخدمة التابعة لإحدى شركات الاتصالات. اقتصادياً، يرى المحلل الاقتصادي عبدالحميد العمري أن اتخاذ قرار إيقاف خدمة «بلاك بيري ماسنجر» من شانه أن يخلق سوقاً سوداء للتقنية، وهو ما يؤدي إلى ضرر أكبر، مذكراً بما حصل عندما منعت الهواتف المحمولة التي تحتوي على آلة تصوير (كاميرا). بعد هذا كله، يطرح سؤال نفسه: هل يتحول ماسنجر البلاك بيري إلى الممنوع المرغوب؟ على غرار ما حدث لكاميرا الجوال، التي مُنعت في بداية وصولها إلى البلاد، ولكنها اليوم في حوزة كل مستخدمي الهواتف النقالة. أثر التقنية الجديدة واضح في المجتمع السعودي، فأم صالح مثلاً تدعو أبناءها للغداء، عبر رسالة بلاك بيري، تقول: «أصبحت أنا وأبنائي لا نتكلم إلا عبر هذا الجهاز سواء كانوا داخل المنزل أم خارجه، حتى حين أطلب الواحد منهم للغداء تجدني أرسل له رسالة عبر خدمة الماسنجر المتوافرة في الجهاز». وتتفق معها فجر الحارثي التي تقول: «من شدة ارتباطي وتعلقي بهذا الجهاز، تجدني لا أنفك عنه حتى وأنا أسير في الشارع أو السوق». وأضافت: «أذكر في إحدى المرات أثناء سيري في الشارع ارتطم رأسي بعمود مظلات السيارات من شدة انشغالي في المحادثة». ويجزم الباحث الاجتماعي عبد الإله التاروتي بأن «ثورة التقنية شئنا أم أبينا، باتت جزءاً من المكون الثقافي لهذا الجيل، فبعد 40 عاماً، سيؤرخ هذا الجيل لثقافته، لهذا السبب لا نستطيع حجر هذه الإمكانات». ويضيف: «مشكلتنا أننا نراكم الخبرات السلبية، ولا نبرز الإيجابية، فالشباب أمامهم طرق متناقضة في التعامل مع التقنيات الحديثة، والأمر المهم هو أن نطوع المنتج الثقافي بحسب الحاجة، أي أن المشكلة ليست في التقنية، وإنما في طريقة تطويعها. أما مسألة القديم والجديد فهي متلازمة مع الإنسان منذ الخليقة. والجديد يستدعي متغيرات جديدة. والإنسان عندما يعتاد على شيء معين فمن الصعب تغييره، فهذا التغيير يكلفه جهداً مالياً وذهنياً». وتاريخ الممنوعات في السعودية طويل، ليس في المجال التقني فحسب، ففي المجال الثقافي أيضاً، منع كثير من الكتب والأسماء من النشر في السعودية، لسنوات طويلة، إلا أن معرضي الكتاب الأخيرين كسرا حدة المنع، بعد دخول كتب ما كان السعوديون ليحلموا يوماً بأن يروها في متناول أيديهم. ولا يزال قانون منع «أطباق الستالايت» سارياً إلى اليوم في السعودية على رغم عدم وجود بيت يخلو منها تقريباً، فضلاً عن بيعه في المحال سراً وعلناً... مثل قصة حظر بيع «جوال الكاميرا».