في «مديح لنساء العائلة»، يستكمل الكاتب الفلسطيني محمود شقير (مواليد القدس 1941) حكاية بدأها في روايته السابقة «فرس العائلة» عن أسرة بدوية تتفرّع من عشيرة «العبد اللات»، تنتقل من طور البداوة إلى الحياة القروية فالمدنية. لكنّ منّان، إبن محمد العبد اللات، يصير في الجزء الثاني هو الأب الشاهد على تحولاّت سياسية ثقافية جغرافية عامّة، تترك أثرها على أبنائه وعلى مسار حيواتهم المختلفة. «مديح لنساء العائلة» (نوفل، هاشيت- أنطوان) عنوان يومئ بحكاية «خاصة» تدور أحداثها ضمن دائرة محددة العلاقات والشخصيات. وهذا التكهّن لا تُخطئُه القراءة، بحيث يقف الكاتب عند تفاصيل دقيقة جداً في وصف نساء العائلة وعلاقة الشخصيات بعضها ببعض وما إلى ذلك. غير أنّ قراءة معمقة للرواية تُثبت أنّ مسلك هذه العائلة لا ينفصل عن المسلك السياسي العام، بحيث يعمد الكاتب إلى تلقيح «الحدوتة» العائلية بقضايا وأزمات كبرى، أوّلها نكبة فلسطين 1948، وما تلاها من حروب ونكبات انعكست شتاتاً اجتماعياً في فلسطين وخارجها. وهذا الشتات الكبير يتمثّل روائياً عبر تفكّك عائلة منّان العائدة إلى عشيرة «العبداللات» البدوية، والتي اتخذت من ثمّ قرية «رأس النبع»، (شرق القدس) مقرّاً لها. واللافت أنّ الإشارة الزمنية هذه: «كارثة 48» تتكرّر في النصّ كأنها لازمة تشطر الأحداث الفرعية إلى شطرين: ما قبل النكسة وما بعدها. «حين وقعت كارثة 1948، كانت أمي تعيش مع أبي في راس النبع، ولم يبقَ في رأسها من البرية إلاّ وميض الذاكرة» (ص 37) أو «كنت في بدايات وعيي على الحياة حين وقعت الكارثة» (ص40)، «ولمّا وقعت كارثة 48 انقطعت عن الدراسة، ولم تلتحق بالمدرسة» (ص 122). تزوج منان ست مرات وانجب عدداً كبيراً من الأبناء. محمد الأكبر قضى ردحاً من حياته في السجون بسبب نزعته الشيوعية وفكره التقدّمي، تزوّج مريم المسيحية وظلّ يناضل ضدّ الاحتلال البريطاني ثمّ الإسرائيلي. محمد الصغير تعمّق في الفكر الديني وتطرّف في أفكاره العقائدية، محمد الأصغر هو الأكثر اتزاناً بين أخوته. عمل كاتباً في محكمة القدس وأحبّ سناء، امرأة مطلقة تكبره بثلاث سنوات، علماً أنّ هذا الفعل كان جديداً على العقلية العشائرية. أوصاه والده بالعشيرة ولمّ شمل العائلة، فظلّت الوصية حملاً ثقيلاً على ظهره وسط تخبّط أفرادها في حياة متخبطة أصلاً. وليس غريباً أن يُطلق منّان الأب، وهو الشخصية التي تُمثّل ذهنية العشيرة، اسم والده «محمد» على ثلاثةٍ من أبنائه، تقديراً منه لوالده. وهذا التفصيل الصغير إنما يسطّر ذكورية المجتمع العشائري وبطريركيته وتمكسه بالأصل والجذور. من هنا، نجد أنّ الكاتب، الذي ينتمي أصلاً إلى عشيرة بدوية فلسطينية، اشتغل على إبراز الكثير من جوانب الحياة البدوية وذهنيتها عبر اختيارات سردية وفنية، بعيداً عن إقحام المعلومات التوثيقية وحشدها في نصّه. أمّا فليحان فهو الابن الذي كان منّان يخاف منه وعليه. تزوّج امرأة جميلة وأحبّ عليها رسمية، فتاة المخيّم المجاور والمخطوبة من ابن عمها، فاتخذها زوجة له. يُمثّل محمد الشخصية البراغماتية، اغتنى بعد تجارته بالحشيش قبل أن يُحاول غريمه القديم قتله فيُقعده طوال حياته كسيحاً. يُصاب فليحان «الفحل» بعجز جرّاء الإصابة فيستعيض بالقراءة عن متعته الجنسية: «أحضر لي أخي كتاباً اسمه «منطق الطير» لفريد الدين العطار، وكتباً لنجيب محفوظ ويوسف إدريس ومحمد عبد الحليم عبدالله وآخرين»... وعطوان هو الابن المهاجر إلى البرازيل، حاملاً فلسطين في ذاكرته، من غير نيّة في العودة إليها قبل أن تتطهّر أرضها من المحتلّ الصهيوني. تتزاحم الشخصيات في رواية محمود شقير وتتكاثر، مما يرسّخ لدى القارئ شعوراً بأنه يتلصّص على حياة عشيرة حقيقية تعجّ بالأبناء والأزواج والأخوة. الرواة أيضاً يتعددون، علماً أنّ الراوي الرئيس هو محمد الأصغر، إبن منّان العبد اللات. تنطلق أحداث «مديح لنساء العائلة» مع قرار السارد محمد الأصغر بإلغاء سفره إلى بيروت (1982) إحياءً لذكرى زواجهما العشرين. لكنّ السبب في قراره ليس الحرب الدائرة في المدينة الجميلة التي قضى فيها الزوجان شهر عسلهما الأول، إنما احتراماً لرغبة والدته وضحا (الزوجة السادسة لمنّان)، التي رأت فرس العائلة في المنام. «قالت إنها أكثرت من الصهيل كأنها تحذّرنا من مغبّة هذا السفر». وهذه الإشارة ليست إلاّ تكريساً للثقافة البدوية الغنية بالأساطير والخرافات والخزعبلات. ينتقل السارد، عبر ضمير المتكلم، من حكاية السفر إلى حكايته هو، أي حكاية العائلة. فالفرد في العشيرة لا ينفصل عن الجماعة. هذا ما ورثه والده منّان عن والده محمد وما أراد أن يجذرّه في ذهنية أبنائه لولا أن حالت الظروف المحيطة دون ذلك. «أنا محمد بن منّان العبد اللات الملقّب ب»الأصغر» للتمييز بيني وبين أخوين آخرين أطلق أبي عليهما الاسم نفسه... أنا الآن في الثانية والأربعين. تعايشت مع هموم كثيرة وكان همّ العائلة واحداً منها»... يُقدّم الراوي نفسه كأنه في محضر، وهو الذي توظّف كاتباً في المحكمة الشرعية في القدس. علمته مهنته التدوين، فأراد أن يدوّن حكاية العائلة. فترك للشخصيات الأخرى أن تُقدّم نفسها وحكايتها بلسانها، وعلى طريقتها. «قالت أمي: أنا وضحا بنت عبد الهادي، زوجة منان محمد العبد اللات، يا حسرة راسي قديش تعبت وشفت ويلات...»(ص 26). وفي نهاية الرواية، يكتشف القارئ أنّ الفرس الذي زار الوالدة في المنام لم يكن يُنذر محمد، بل الوالد منّان الذي يرحل تاركاً وصية العائلة في رقبة محمد الأصغر القاصر عن ربط أسرة تفككت بفعل التحولات السياسية والاجتماعية بعد النكبة. في ظلّ تشابك الأحداث والخيوط والشخصيات، تظلّ المرأة هي العصب الرئيس في رواية محمود شقير «مديح لنساء العائلة». أولاً هي ذاكرة العشيرة، وهذا ما نجده في شخصية وضحا التي لا تملّ ولا تكل من سرد قصص تتأرجح بين الواقع والمتخيل، المعقول واللامعقول. تحكي لأبنائها، في حضرة الزوج، عن البلاد والمعارك والأبطال والجنّ والأساطير، فكأنها شهرزاد التي تغري شهريار بحكاياتها المستفيضة. أمّا سناء، زوجة محمد الأصغر، فهي المتمردة على العادات الثقيلة الموروثة، وما حريتها إلاّ مرادف لتحرّر مجتمع قبائلي من أفكار قديمة بالية. وحين رضيت سمية بارتداء السروال الداخلي القصير ومرافقة زوجها فليحان، عاشق سميرة توفيق، إلى سهرات الليل، فذاك تحوّل في شكل المجتمع القروي بعد تأثره بطفره الحداثة. «مديح لنساء العائلة» رواية عن فلسطين وأهلها، كتبها محمود شقير بلغة بسيطة، مقتصدة، مستفيداً من خبرته كقاص قديم. أحداثها لا تنتهي بموت الأب. فالنساء والأبناء ما زالوا يروون حكاياتهم. ولا شكّ أن جزءاً ثالثاً سينجزه محمود شقير كي تكتمل سيرة العائلة، أو الأصحّ قولاً، الأرض.