وجه روائي آخر لمدينة الرياض ، يقدمه الصديق الروائي والقاص خالد اليوسف ، فبعد رواية بنات الرياض لرجاء الصانع ، وتدور أحداثها بين الجامعة ، وبيت امرأة مطلقة في حي آخر ، تلتقي داخله شخصيات رواية بنات الرياض ، ورواية شارع العطايف لعبد الله بن بخيت ، وتحمل اسم الحي الذي تدور أحداثها فيه ، ورواية اليوم الأخير لبائع الحمام لعبد العزيز الصقعبي ، وتدور أحداث شخوص الرواية في حي الصالحية ، وربما لدي يقين أن رواية (تجربة فتى متطرف) التي لم يسعفني الحظ بعد بقراءاتها ، وتدور أحداثها في أحد أحياء الرياض أيضًا ، للصديق الدكتور محمد عبد الله العوين ، وتأخذ في نفس السياق وكتابة سيرة مدينة ، تغرق في صحراء من الغموض والأسرار ، وربما بقراءة كل رواية على حده ، سنخرج بكثير من المقارنات والاستنتاجات الطويلة .. يستحضر خالد اليوسف مرحلة زمنية تاريخية بعيدة ، يعود بنا إلى الرياض القديمة جدًا قبل الطفرة ، ويحدد مكانًا للرواية الجهة الجنوبية الغربية للمدينة ، واختار بذكاء نافذة لحركة شخوص الرواية ، سوق المقيبرة المجاور لمواقف سيارات طريق الحجاز ، لتهب على المدينة الصحراوية رياح التغيير عبر مينائها البري ، فالسوق مكان تجتمع فيه كل الشرائح البشرية المتنوعة ، فكيف بالشريحة التي تتناولها الرواية؟ ، شريحة نساء البخور المحملة بالحكايات من داخل البيوت وفي السوق ، نساء ورجال من عالم المهمشين والغرباء عن التقاليد النجدية ، النساء الجائلات ضحى كل يوم بلفائفهن الكبيرة على رؤوسهن بين البيوت (هن نساء الرياض المتشبثات بروح المدينة ، وهن السوق المتحركة قبل استقرار حاجاتهن المتزايدة ليكون لهن بسطة كالأخريات في سوق المقيبرة .. ص 80). يؤرخ الروائي خالد اليوسف لبداية عالم روايته عام 1963 وهو تاريخ لم يأت عبثًا ، فله مبرراته السياسية والمجتمعية ، فالسياسية تعني بالثورة اليمنية ضد الملكية في تلك المرحلة ، وتربط دلالتها بالشريحة الرجالية اليمنية في سوق المقيبرة ، والمجتمعية تعني زوج مزنة بنت أحمد من ابن وجيه من بيت يتواصل امتداده مع مجموعة من البيوت الجميلة البارزة شمالي شارع الظهيرة ، وقد عُرف أنه لعلية أهل المدينة ، لأنه يقترب من حي المربع والبيوت الفارهة والقصور الواسعة. وهنا ملاحظة مهمة فالكاتب يمد جسرًا بين طبقتين مجتمعتين متباينتين في الثراء والفقر ، وقد اختار الحرفة التجارية كمظهر للحياة ، وتبادل الحاجات بين شرائح هذا المجتمع ، وبالرغم من مظهرها المجتمعي إلا أنها تعكس جانبًا اقتصاديًا وسياسيًا ، وبالرغم من كتابة خالد الواقعية إلا أني لمست (رمزية) شديدة الذكاء ، وقد استخدم (ماكينة الخياطة) لتكون جسرًا بين عالمين ، وذكرني ببطلة شيخ الرواية العربية نجيب محفوظ في رواية بداية ونهاية ، حينما سقطت البطلة التي تصرف على العائلة بواسطة ماكينة خياطة ، فلا يسمع الجانب الآخر من المجتمع إلا صرختها ، وهي تنهي حياتها في نهر النيل منتحرة ، قائلة: (ليرحمنا الله جميعًا!) في نهاية الرواية ، وكأنها تحاسب المجتمع الذي حدد لها حياتها ، وها هي بطلة نساء البخور المرمزة ، تقتحم سوق المقيبرة بمكينة الخياطة ، ولا شك أن ظروف وشخصية وعالم بطلة نساء البخور عن بطلة بداية ونهاية مختلفة ، ولكن الوسيلة واحدة (ماكينة خياطة) والرابط بين عالمين وطبقتين ، ولكن كيف ستكون نهاية مزنة بنت أحمد؟ وتبرز بين نساء البخور مريم الورقا ، البدوية التي أصبحت ، بدوية مدنية لمن يعرفها ، ومدنية من قلب المقيبرة لمن لا يعرفها ، امرأة لا تترك شيئًا للصدف ، فبسطت سلطتها على باسطات البضائع من النساء الجائلات والمعروفات في سوق المقيبرة بين نساء البخور ، كخيرية الحساوية والدوسرية وشريفة العسيرية الصماء وزوجها اليماني شهاب الزين ، وشقيقته ووالدته ، فمريم تتمتع بقوة حدس لا تخيب ، وقدرة على تحليل المواقف التي مرت بها ، أو سمعت عنها من غيرها ، مما جذب لها ، بسبب هذه الخاصية ، عقول صاحباتها اللاتي يسترشدن بها ويأنسن لرأيها أو حكمها على ما يرغبن منها والتدخل فيه. وكثيرًا ما كانت صوتهن في مواجهة رجال البلدية، حينما يتسلطون على حريم ضعيفات تركن بيوتهن (ترى كل واحدة عن ألف رجّال ، أطلب الفزعة علشان تشوف .. ص 18) ، كان ردها هذا على موظف البلدية ، تعبيرًا عن مشيئة كل نساء البخور في مواجهة أي طارئ يهدد بقائهن في سوق المقيبرة. تفصح الرواية من عنوانها عن عالم نسائي ، ونستطيع أن نكتشف أن الروائي الصديق خالد اليوسف قد نجح في وضع مستويين من الحكي ، فالمستوى الأول يأتي في سياق عالم شخصيات نساء البخور وحواراتهن في السوق وخصوصياتهن ، والمرأة عرفت بأنها مستودع أسرار البيوت ، والمرأة تجيد من جانب آخر الثرثرة وصناعة الإشاعا ت والنميمة (وتأمل سميرة المتخصصة في بيع ملابس الأطفال إذا فجرت صمتهن ، وتوقف الحوار بسؤالٍ لم يتوقعن سماعه: - إلا أبغى أسألكن ما تتوقعن أن هذي المرة اللي ما شفناها بعد هي اللي جابت أسطوانات الأغاني للسوق اللي يمنعونها المطاوعة؟.. ص 79 ، والكاتب الذي ينتقي شخصياته ، يتمدد إلى الأحياء والبيوت المجاورة ، ليسلّط الضوء على عالم وشخصيات الرواية بالوصف والاستقصاء ، وكثيرًا ما تجول بنا بكاميرا تصوير في الديرة والبطحاء والصفاة والثميري ، لنشاهد الأسواق الشعبية المجاورة وما تحتويه من سلع متنوعة ، وبالذات بعين شخصية رجالية ذات صلة بالعالم النسائي لنساء البخور ، اليماني شهاب الزين زوج شريفة العسيرية الصماء إحدى نساء البخور ، ومندوب نساء البخور إلى الأسواق المجاورة ، لشراء (مذياع) وتركيبه في سوق المقيبرة ، وهنا - يتم المستوى الثاني من الحكي ، فالمذياع الذي كان في سلطة مريم الورقا في عام 1963 يبث أخبار الثورة اليمنية ، صار في عام 1967 راديو أم زيد ويبث أخبار الانكسار والهزيمة والنكسة ، أم زيد المرأة التي سحبت بساط السلطة في السوق من مريم الورقا ، عبر قنوات متعددة اقتصادية وثقافية ربطتها مع مزنة بنت أحمد زوجة أحد رجال القصور. الرواية محددة زمانيًا ومكانيًا ، تعيد إلى الذاكرة أحداثًا سياسية كثيرة ، قليل منها حدث في شوارع الرياض ، ويكون له تأثير في المدينة أو في السوق كحالة مجتمعية ، كتفجيرات اليمنيين وإعدامهم ، أو سلوك عام كالمظاهرة التي جرت بعد الهزيمة والشعور بالخيبة ثم تفريقها ، لأن الأحداث تتكئ على ما يتردد يوميًا في السوق من (المذياع) المستوى الثاني من الحكي ، وكانت ماكينة الخياطة نافذة أولى لقراءة أسرار البيوت والقصور ، وانحياز خالد اليوسف لنساء البخور واضح جدًا ، ولا بد أن الانحياز ينتج نهايات مثالية في قراءة سيرة الشخصيات ، والرواية تمنح المتعة في الحفر الزماني واستدعاء التاريخ السياسي ، وتستبطن شخصياتها في حدود الحدث الآني ، فتبدو الانفعالات وردود الفعل والشخصيات مسطحة بلا تراكم ، ونفشل في التقاط تصاعد حدثي ، وخطابات متجاورة في نسيج الرواية ، تقودنا حتى إلى الإدانة النسائية لسلطة الرجل ، حينما تتسع وتنفرج لدى الراوي زاوية الرؤية ، فتصبح المدينة وتقاليدها هي المعنية بالتشخيص.