أصدر الشاعر والروائي التونسي حافظ محفوظ كتاب «وصايا سارتر» (الأطلسية للنشر 2015)، متكوناً من جزءين حاور فيهما الكاتب مجموعة من النصوص الشعرية والروائية الأجنبية والعربية والتونسية ضمن دائرة قرائية كبرى لم يعزل فيها النص عن سياقاته الاجتماعية والفكرية والسياسية؛ أولهما بعنوان «كتابات» ويتضمن مواقفه النقدية من الكتابة الإبداعية وما فيها من أجيال مهرت أسماء أصحابها مسيرةَ الإبداع الأدبي، وثانيهما عنوانه «قراءات» وخصصه الكاتب لتقديم رؤى له نقدية في متون نصية لمبدعين تونسيين. يبيح لنا كتاب «وصايا سارتر»، وهو عنوان لمقال من مقالاته، أن ننظر إلى متنه من زاويتين: نقدية أدبية، ونقدية ثقافية؛ وهما زاويتا نظر تمثلان في ما نزعم، غاية هذا الكتاب ومطمح أهدافه. فمن جهة النقد الأدبي يجوز لنا القول إن قراءة الكاتب لنصوص الشعراء والروائيين لا تُخفي بعض مديح منه لها محمول في لغة واصفة لا تميل إلى قول رولان بارت «نفشل دائماً في الحديث عمن نحب» وإنما هي تخلص جهدها للاحتفاء بالمقروء والتنبه إلى جمالياته والتغاضي أحياناً عن هناته الفنية. وهو احتفاء، وهو مديح يرى فيهما الكاتب سبيلاً إلى الاعتراف بالمبدعين اعترافًا قد يهوّن من حجم أحزانهم التي تصرعهم «كما تصرع آلة القص الكهربائي أشجار البلوط العملاقة من أجل فتح طريق لخيانة الطبيعة». وقد أكد كتاب حافظ محفوظ في عنوانه الفرعي «نصوص في مدح الكتابة» تقصّدَه هذه الغاية، وذلك من جهة أن المبدع هو بالتوصيف كائن حَيِي وعزيز النَّفسِ معًا، ومن ثمة فهو لا يطالب بحقِّ الاحتفاء به والاعتراف بمُنجزه الإبداعي وتثمين تجربته على كثرة ما يصنع للناس من معان تضيء عتمة أيّامهم وتخفّف عنهم ثقلَها وتُحقّق للواحد منهم توازنَه الوجودي داخل العالم. غير أنّ حياء المُبدع لا يجب أن يزيد من حياء القرّاء فيمنع عنهم واجبَ تثمين جهوده والاعتراف بفضلها الحضاريّ، لأن الكتابة، على حدّ ما يرى محفوظ، هي الضامنة لهُويّة الفرد داخل فضاء مجموعته الاجتماعية، لأنها «في أقصى حالاتها وسيلة للوجود المضيء، وبرهان خلاص من التشابه». والظاهر أن حافظ محفوظ قد نزع في رؤاه النقدية إلى إعادة الاعتبار للنص ولصاحبه معًا في كلّ قراءة، كما لو أنه يرفض مقولة موت المؤلِّف التي دافع عنها أصحاب النقد الجديد، إذ لم ين في مقالات كتابه يحاور النص على ضوء سيرة صاحبه، بل هو لا يخفي إيمانه بحقيقة أنه لا يمكن بلوغ جواهر النصوص من دون النظر إلى ما جاورها من حياة كتّابها وما اتصل بها من سياقات اجتماعية وثقافية احتضنت إنجازها. لأن النص بالتعريف هو تقاطع الكاتب مع محيطه بكل دوائره الاجتماعية والثقافية والسياسية والتخييلية وغيرها، وإذن فكل نص هو فضاء الإنساني في الكاتب، ومن ثمة يكون تعرّفُ سياق النص أمراً ضرورياً لقراءته. وبقدر ما احتفى حافظ محفوظ في نقده الأدبي بنصوص الكتّاب الذين انتخبهم عيّنةً داّلةً على سخاء الكتابة ووفرة معانيها أمثال محمود درويش ومنصف الوهايبي ويوسف رزوقة وصلاح الدّين بوجاه ومنوّر صمادح وغيرهم بدا شديد الحرص في نقده الثقافي على الإنصات لحركة الفعل الإبداعي التونسي من ستينات القرن الماضي إلى الآن وما صاحب ذلك من صخب ولَغْو قولي مرة وإيقاعات منتظمة مرات أخرى. من ذلك أنه قرأ تجربة ما سُمِّيَ في تونس «شعراء الثمانينات» الذين مثّلوا جيلاً شعرياً تغيّا أصحابه تجديد آفاق القصيدة التونسية، قرأ تلك التجربة قراءة أفقيّة وقف فيها على حدودها سواء على مستوى مضامينها أو على مستوى أشكالها الفنية، وانتهى من ذلك إلى تقرير أنّ شعراء الثمانينات «لم يُخلّفوا لنا قصيدة واحدة نفخر بها أمام الأمم الأخرى، مرّت عشرون سنة وتزيد وهم يُنتجون نُسخًا مزوَّرة ومشوّهة لأشعار غريبة عنهم وادّعوا الزعامة والفحولة والتجاوز». ثم هو يعلن بجرأة وببعض المبالغة التي لا تخفي رغبته في تصفية حسابات جمّة مع ذاك الجيل أنّ «شعراء الثمانينات عندنا لا يعرفون من الحداثة إلا الحديث الذي يثار حولها في المقاهي... غالبيتهم تتبجّح بالنضال ونحن نعلم أنهم اختاروا المقاهي ليمارسوا فيها نضالَهم المزعوم»، ويضيف قوله: «كنّا نعلم أنهم ينتحرون رويداً رويداً... وتشهد قصائدهم أنهم فارقوا هذه الحياة، لكن نبتت لهم أنياب من تحت التراب وراحوا يحاولون تمزيق جسد القصيدة الفتيّة التي بدأ يكتبها الشعراء الجدد». ولا يَخفى عنّا أن الشعراء الجدد المعنيّين بقول الكاتب هم «شعراء التسعينات» - وهو واحد منهم - الذين استهجن جيل الثمانينات أشعارهم ومنعهم من حضور غالبية الفعاليات الشعرية التي أقيمت آنذاك وأغلق أمامهم أبواب الظهور إلى الناس، ما دفعهم إلى التمرّد على مواقف هؤلاء الفنية والجمالية وما يحتكمون إليه من قيم الهيمنة والأبوّة، وكتابة نصوص جديدة تحتفي بالحياة في إطلاقيتها وبتفاصيل المعيش بكلّ جمالياته بعيداً عن كلّ استهتار ثوريّ. ولم يرَ حافظ محفوظ في ذاك الاستهجان لشعراء جيله وما تعرّضوا له من تشويه وتهميش أمراً يجوز توصيفه بمعركة القديم والجديد وإنما يراه معركة بين «الرداءة والجودة»، وهي «معركة حُسم فيها الأمر لفائدة الشعر الجديد». إنّ ما يمكن الخلوص إليه من قراءتنا لكتاب «وصايا سارتر» هو أن حافظ محفوظ قد اتكأ في مقالاته على خلفية ثقافية ثرّةِ المشارب الفنية ساهمت في شكل فاعل في وسم نصوصه بوسم النص المثقَّف؛ النصّ الذي مهما قشّره النقد يظلّ مكتنزاً أسراراً ومعاني محفورة في أعماقه. وفي هذا ما جعل تلك النصوص نصوص حياة، لا نصوصًا قابلة للتكشّف السهل، وللموت الأسهل، وهي إلى ذلك نصوص لا تخلو من ملامح إنسانه هو؛ حيث يحضر فيها الكثير من نزوعه إلى تأصيل ما اهترأ من منظومة الكتابة الإبداعية، والكثير من تنبّهه إلى سرديات معيشه الثقافي والسعي إلى استدعائها فنياً لتفكيك ما فيها من هَنات، وشحذها بما تحتاج إليه من روح نقدية ما به تصنع أسطورتها.