ركزت معظم المقالات التي كتبت في رثاء المفكر المصري فؤاد زكريا الذي رحل قبل أسبوع على إضاءة حياته ومسيرته في التفكير العلمي كمشتغل فريد بالدراسات الفلسفية. وعملت مقالات أخرى على تناول موقفه من ظاهرة «الأصوليات» الدينية في العالم العربي. لكن ما لفت في تلك المقالات التي كانت تفيض بتقدير الرجل ومنجزه الفكري الكبير أنها تغافلت جانباً مهماً في مسيرته وهو مؤلفاته في الموسيقى. وأحسب أن الراحل كان من أهم نقاد الموسيقى الغربية في عالمنا العربي وأبرز المنظّرين لها، ولا تضاهي كتاباته في هذا المجال سوى كتابات المفكر المصري الراحل حسين فوزي الذي كان يقدم برنامجاً شهيراً للإذاعة المصرية في أعوام مجدها كرسه للموسيقى الكلاسيكية التي عشقها وكتب عنها مجموعة من المؤلفات المهمة، فضلاً عن الترجمة. ومثله لجأ زكريا إلى تأليف مجموعة كتب في الموسيقى، أبرزها كتابه عن الموسيقي الألماني الشهير ريتشارد فاغنر الصادر في سلسلة «المكتبة الثقافية»، وكتابه «التعبير الموسيقي» الذي صدر في طبعات عدة أولها عن «مكتبة مصر» عام 1956، فضلاً عن كتابه «مع الموسيقى» الذي صدر أيضاً عن «مكتبة مصر». واللافت أن أحداً لم يفكر في تناول هذا الجانب في مسيرة زكريا ما عدا الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي الذي كان مقرباً من المفكر الراحل، وكان لجأ إليه في بداية توليه مسؤولية تحرير مجلة «إبداع» في مطلع تسعينات القرن الماضي ليكتب بانتظام. وفي هذه المجلة واصل زكريا تأملاته الواعية في الموسيقى واستكمل ما كان بدأه في كتبه عن الموسيقى. وفي مقاله اليتيم حول علاقة الفلسفة بالموسيقى، يرجع حجازي أسباب اهتمام زكريا بالموسيقى إلى سنوات نشأته الأولى. فمنذ كان صبياً في العاشرة من عمره نجح في صنع آلة موسيقية بدائية - كما يصفها - واستطاع إقناع أسرته بشراء مندولين كان يجيد العزف عليه. كما تعلم أن يقرأ المدونات الموسيقية، حتى انفتح له عالم الموسيقى السيمفونية، خصوصاً بعد أن التحق بقسم الفلسفة في كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول. وفي مؤلفاته، انطلق زكريا في تناوله الظواهر الموسيقية من رؤية فكرية وفلسفية تربط الموسيقى بسياقها التاريخي وتنظر دائماً إلى الغرب كمصدر إلهام، وربما لهذا السبب اتسمت أحكامه في شأن الموسيقى الشعبية بشيء من التعسف والقسوة. ويلاحظ أيضاً أن تناوله لحرية الفنان كان ينطلق من إيمانه بالمسؤولية الأخلاقية والاجتماعية للفنان، وهو إيمان كان ضمن سياق تاريخي وفكري نظر إلى الفن نظرة مجتمعية شاملة وعلى خلفية الأثر الذي تركه رواج مذهب الواقعية الاشتراكية في ستينات القرن الماضي. ووفقاً لهذه الرؤية انتهى زكريا الى القول إن «أحوال المجتمع تنعكس على الفنان وتضفي على أعماله صبغتها الخاصة»، فهو ضد عزل الموسيقى عن واقعها المحيط. ويطبق زكريا هذه القناعة في كتابه عن فاغنر، الذي تتلمذ على شوبنهور، وجمعت بينه وبين نيتشه صداقة حميمة. ولعل ثقافة القرن التاسع عشر هي ثقافة الثورة التي شملت كل مجال، وسعت إلى تحرير الإنسان من العصور الوسطى وثقافتها الخرافية ونظمها المستبدة. وكما وقف بتهوفن إلى جانب الثوار الفرنسيين، وقف فاغنر إلى جانب الثوار الألمان. وفي كثير من رؤاه لجأ زكريا دائماً إلى الاستعارة من حقل تخصصه الرئيس لتأكيد ارتباط الموسيقى بالفلسفة، إذ كان دائم الإشارة إلى تنظيرات شوبنهور في كتابه «العالم بوصفه إرادة وتمثلاً» في شأن الموسيقى وهي صوفية إلى حد كبير. وفي مناطق أخرى من مؤلفاته يعالج زكريا تجربة الاستماع إلى الموسيقى بوصفها عملاً فنياً. وعارض المفكر الراحل ما كان يسميه «اللذة السلبية» في مجال الموسيقى التي تلائم «الطرب» أكثر من ملاءمتها الموسيقى، لأن الأخيرة فن رفيع لا يجوز أن يقتصر على هذا التأثير السلبي، مؤكداً أن تحرر الموسيقى من سلطة الغناء تاريخياً هو ما يؤكد أنها وسيلة كافية للتعبير. وفي كتاباته عالج الراحل مشكلات الموسيقى الشرقية، مؤكداً أنه «ليس لدينا في الشرق فن موسيقي في المعنى الصحيح والفارق بين الموسيقى المحلية والموسيقى الغربية فارق في الدرجة وحسب وليس فارقاً في النوع. فالموسيقى الشرقية كما رآها كانت عاجزة عن التعبير عن أي معنى أو عاطفة، بل إنها بذاتها لم تملك أية قدرة تعبيرية وإنما تكاد تنحصر كلها في الأغاني فقط و «إن بحثت عن موسيقى خالصة، فلن تجد إلا محاولات بدائية قصيرة لا تعبر عن شيء». وينتهي زكريا دائماً في كل مبحث داعياً إلى اقتباس الأساليب الغربية، وهي دعوة تنسجم مع المسار الذي عاشه في حياته كلها، فهو صاحب النظرية القائلة: «إن الغزو الثقافي الغربي خرافة لا وجود لها».