الكتاب الذي نشره الدكتور أسامة بن عبدالمجيد شبكشي، قبل أسابيع قليلة من انتهاء عمله سفيراً لخادم الحرمين الشريفين في ألمانيا، ويحمل عنوان «مواقف وأشهاد»، هو نوع فريد من الكتب، يقدر على مخاطبة طوائف شتى من القراء في الوقت نفسه، ففيه ملامح من سيرته الذاتية، وفيه ما يشبه الأرشيف الإعلامي عما صدر من تقارير عن عمله، سواء كانت إيجابية أم سلبية، وفيه الكثير عن الشخصيات التي رافقته خلال مسيرته العملية، لكنه يبهر القارئ بالكشف عما يجري خلف الأسوار العالية والأبواب المغلقة، داخل المجتمع الأكاديمي، وفي دوائر صنع القرار، كل ذلك بشفافية عالية وصدقية فريدة، إنها شهادة رجل حكيم يقول: «قطع بي قطار العمر ثلاثة أرباع الطريق»، فهل ننصت له؟ صدر الكتاب في طبعة فاخرة، يضم بين دفتيه 596 صفحة، وهو مقسم إلى ثلاثة أجزاء، الأول عن نشأته وتعليمه، والثاني عن فترته الأولى في وزارة الصحة، والثالث عن التمديد في هذا المنصب، وللأسف الشديد يتوقف الكتاب عند هذه المرحلة، ولا يتناول فترة عمله مستشاراً في الديوان الملكي، ولا فترة عمله الدبلوماسي، التي كانت حافلة بأحداث مهمة، التي كانت ستلقي الضوء على العلاقة بين بلدين، تربطهما علاقة صداقة وطيدة، على رغم اختلاف طبيعتهما. ويوضح شبكشي أن السبب وراء ذلك، يرجع إلى رأي دار النشر، التي اقترحت «الاقتصار في كتابي الأول» على المواضيع المشار إليها، وهو بذلك يعطي القارئ الأمل بأن يصدر الكتاب الثاني، متضمناً لما ينتظره القطاع العريض من القراء المهتمين بالعلاقات السعودية - الألمانية. ومن الطريف أن الكتاب لا يحتوي على حقائق جافة، وأرقام وبيانات وأسماء فحسب، بل يجد القارئ أن للمؤلف أسلوباً مميزاً، فهو يحب الاستشهاد بالآيات القرآنية، وبأبيات الشعر، وبالأقوال المأثورة، كما أن له نكهة مميزة في الطرائف والدعابة بل وفي السخرية اللطيفة، مثل قوله عن نفسه بعد توليه مناصب رفيعة: «وبين عشية وضحاها غدا الشخص غير المرغوب فيه، محبوباً من الجميع»، وفي موضع آخر: «وعلى حين غرة صرت محبوباً من الجميع». يذكر أن والده اختار له في اليوم السابع بعد ولادته اسم «أسامة»، وكان عم والده الشيخ عبدالوهاب شبكشي، وخال والده الشيخ عبدالوهاب حسوبة، حاضرين عنده، وكان سمعهما ثقيلاً فسأل أحدهما الآخر، ما اسمه؟ فأجاب «خصامة». فرد الآخر عليه بالقول: أظن «ضخامة»، فصحح لهما الوالد الاسم، فدعيا له. ومن المؤكد أن المؤلف لم يكن مدركاً لما قالاه، ولكن يبدو أن والده نقل له هذه الأطروفة، وما زال يذكرها، كما يذكر غيرها كثير، على رغم اعتذاره بأن ذاكرته لم تعد في أفضل حالتها. ويوضح الكتاب أن طفولته لم تكن يسيرة، فمن تعذيب بالكي 36 مرة، بهدف العلاج من الالتهاب الرئوي الذي أصابه في صغره، إلى انفصاله في مرحلة مبكرة للغاية عن والديه للدراسة، فبعد التحاقه بمدرسة الفلاح، يغادر إلى السودان للالتحاق بكمبوني كوليدج، ولم ينقذه منها إلا اكتشاف أنها مدرسة تبشيرية، ثم انتقاله إلى الكلية الوطنية بالشويفات في لبنان، ومن بعدها مدرسة فيكتوريا كوليدج في الإسكندرية، ليعود مرة أخرى إلى المملكة، ويلتحق بمدارس القصور السبعة. تسببت إحالة والده إلى التقاعد، بعد أن كان مديراً لشرطة جدة، في معرفته المبكرة لسوء طباع الخلق، وكيف أنهم يتبدلون تبعاً لوجود الإنسان في منصبه أو خارجه، وكيف أن وزيراً كان صديقاً لوالده وهو في المنصب، يرفض لقاءه بعد ذلك، بل وأن يصل الأمر إلى أن يحتد سكرتير الوزير عليه ويجيب زاجراً لوالده بأن الوزير (الصديق) في اجتماعات دائمة، لتدور الأيام ويأتي الوزير نفسه إلى المؤلف، وهو حينئذ عميد لكلية الطب، ليسترسل هذا الوزير في الحديث عن الصداقة والوفاء، مؤكداً أنه صديق مقرب من والده، ليطلب منه أن يساعد ابنته الطبيبة في الالتحاق بالعمل في الجامعة، فيرحب بها المؤلف، بل ويشيد بها بعد ذلك بأنها كانت من خيرة من التحق بالعمل الأكاديمي، وهو بذلك يكشف صفة مهمة في شخصيته، وهي أنه يسامح لكنه لا ينسى، ويعفو عند المقدرة. ويحتوي الكتاب على تفاصيل كثيرة حول فترة الدراسة والتدريب الطبي، وما واجهه من صعوبات مع أساتذة متحاملين على العرب، وراغبين في التخلص منه، وفي المقابل ما وجده من تضامن من جانب زملائه، ودعمه له، حتى ينال حقه، كل ذلك يصفه بأسلوب يجعل القارئ يشعر بأنه حاضر في كل موقف منها. مؤامرات في البرج العاجي يميل المؤلف إلى ترتيب الأفكار بصورة تجعلك تتذكر دوماً أنك تقرأ لأستاذ جامعي، فهو إذا تحدث عن العودة إلى الوطن، يضع الأسباب في نقاط محددة، ويذكر أهمها، كالآتي: ولاؤنا لديننا ووطننا. أن القلب ما حفّ وجيبه، أو انقطع حنينه إلى الأرض التي نشأنا بها، وملأنا صدرنا من نسيمها وهوائها. رغبتنا في العيش بين الأهل والأحباب، ولاسيما بالقرب من والدينا، لنكسب البر بهما قدر استطاعتنا. عدم شعورنا بالارتياح أن يترعرع أولادنا في بيئة غير إسلامية. أننا حتى لو حصلنا على الجنسية الألمانية، فإنني لن أعامل من المرضى والعامة معاملتهم لبعضهم بعضاً! قد يعاني أبناؤنا من حياة الاغتراب، ربما لشعورهم بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، ناهيك عن ألم البعد عن الوطن. ويتبع هذا المنهج في كثير من المواضع، حتى لو بدا للقارئ أمراً جانبياً، وهو يفكر دوماً في جميع الاحتمالات، ولا يفترض سوء الطباع في الناس، لكنه يدرك تماماً أنهم أيضاً ليسوا ملائكة، لذلك لا يشعر بخيبة الأمل أو بصدمة، حين يجد من يضع الكثير من العراقيل أمامه، بل ومن يسعى جاهداً لإيقاع أكبر الضرر به، ومع ذلك يظل صابراً، بل والأغرب أن يواصل التعامل مع هذا الصنف من الناس، حتى وإن وصفهم في أحد المواضع بأنهم «شياطين الإنس والمنافقين». وإلى جانب روح الدعابة في شخصية الدكتور شبكشي، فإنه لا يزعم أنه فوق البشر، فيقول إنه عندما أصبح وزيراً للصحة، أصيب بخيبة أمل عندما رأى السيارة القديمة المخصصة للوزير، ويضيف إنه كان يمنّي نفسه بمكتب لائق بوزير، وأن يجد في انتظاره خدم وحشم، ثم اكتشف الواقع المؤلم، فشعر بإحباط وصدمة شديدة، بل إنه ندب حظه متحسراً على مكتب مدير الجامعة الفسيح والمريح والوثير والمكيف، ويقول إنه كان متضايقاً ومهموماً ومصدوماً، وود لو عادت عجلة الزمن إلى الوراء، ليظل في مكتبه بالجامعة. وهو إذا أراد انتقاد شخص، ترك الأمر لذكاء القارئ، فيكتب حادثة تبدو طبيعية، مثل اتصاله بسلفه في منصب وزير الصحة الشيخ فيصل الحجيلان، لينسق معه موعداً لحفلة تكريمه، والوقوف على الأمور التي لا بد له من معرفتها، فيخبره سلفه أنه سيغادر مساء اليوم ذاته، وأن بإمكانه معرفة الأمور كلها، من الزملاء العاملين بالوزارة. وهنا تجدر الإشارة إلى ما ذكره عند جلوسه مع موظفي الوزارة، بعد أن أصروا وألحوا أن يذهب معهم لتناول الطعام، تكريماً لقدومه ومباشرته العمل، إذ أخبرهم بما سمعه منذ تكليفه بالوزارة من أن فساداً مالياً مستشرياً في الوزارة، وأن أعداداً كبيرة من التجار طالبوا بسداد مستحقاتهم، طالباً من الجميع التعاون والتضامن في قطع دابر الفساد، فكان رد الفعل أن غلب الوجوم والصمت على وجوه الحاضرين، وأخذوا ينظرون إليه بنظرات ليس في القاموس ما يوحي بأنها لطيفة، وطفقوا يغادرون المكان، الواحد تلو الآخر. لعل ذلك هو الجانب الذي يجعل الكثيرين يصفون المؤلف بأنه حازم وصارم، هو يقول الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم، حتى ولو أدى ذلك لعدم تقبل البعض له، ولشخصيته، وهو يعرف ثمن هذه الصرامة، وما تجلبه له من عداء ومكائد للتخلص منه، إلى جانب علمه بأن الناس من حوله عاطفيون، يرفضون فصل الشخص من عمله، مهما فعل.